الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه .

وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء ، وإن قل لا ينجس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ومثار الوسواس اشترط القلتين ولأجله شق على الناس ذلك ، وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله .

ومما لا أشك فيه أن ذلك لو كان مشروطا لكان أولى المواضع بتعسر الطهارة مكة والمدينة إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة .

ومن أول عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصر أصحابه لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات .

وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات .

وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية وهذا كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء وإلا فنجاسة النصرانية وإنائها غالبة تعلم بظن قريب فإذا عسر القيام بهذا المذهب .

وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار دليل أول .

وفعل عمر رضي الله عنه دليل ثان .

والدليل الثالث إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة وعدم تغطية الأواني منها بعد أن يرى أنها تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل الآبار .

والرابع أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إن تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن الورود لم يمنع مخالطة النجاسة ، وإن أحيل ذلك على الحاجة فالحاجة أيضا ماسة إلى هذا فلا فرق بين طرح الماء في إجانة فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء وكل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني .

التالي السابق


ثم قال المصنف: (هذا) أي الذي ذكر من مسائل المياه وتحديدها والاختلاف فيها (هو مذهب) الإمام (الشافعي رضي الله عنه) ، وقد أورده بما اقتضته قواعده (وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب) شيخه الإمام (مالك) بن أنس (رضي الله عنه في أن الماء، وإن قل فلا ينجس إلا بالتغير) في أحد أوصافه الثلاثة (إذ الحاجة ماسة إليه) يقال: مست الحاجة إلى كذا إذا ألجأته إليه (ومثار الوسواس) ، وفي نسخة الوساوس (اشتراط القلتين) بالتفسير السابق (ولأجله شق على الناس ذلك، وهو لعمري) هو قسم بالبقاء (سبب المشقة) والحرج العظيم (ويعرفه من يجربه) ويختبره (ويتأمله) ولا ينبئك مثل خبير والمجرب إذا أخبر بشيء شاهده بصدق تجربته فلا محالة في تلقيه بالقبول لما يقول (ومما لا شك فيه) ، وفي نسخة ومما لا يشك فيه، وفي أخرى ومما لا أشك فيه (أن ذلك لو كان مشروطا) أي التحديد بالقلتين (لكان أولى المواضع بتعذر) ، وفي نسخة بتعسر (الطهارة) الحرمان الشريفان (مكة والمدينة) شرفهما الله تعالى وما جاورهما من البلاد الحجازية والنجدية (إذ لا تكثر فيهما المياه الجارية) كالأنهار الصغيرة والعظيمة، وأما العيون التي وجدت بها الآن فمن المستجلبات في القرن الثاني وهلم جرا نعم كانت عيون قليلة في بعض مواضع من الحجاز، لكنها مخفية في الأرض (ولا الراكدة الكثيرة) إلا ما كان من قلات تجمع ماء الأمطار في مواضع قليلة بعيدة عن العمران، وما يشاهد فيها من البرك العظيمة المعدة للمياه فمستحدثات، [ ص: 330 ] (ومن أول عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم) من هجرته إلى المدينة (إلى آخر عصر الصحابة) إلى مائة وعشرة من الهجرة (لم تنقل واقعة) أو نازلة (في) باب (الطهارة ولا) نقل (سؤال عن) ، وفي نسخة في (كيفية حفظ الماء عن النجاسات) ولو وقع ذلك لذكرها أئمة الحديث في كتبهم مع شدة تحريهم لضبط الأقوال والأحوال والنوادر (و) مع ذلك (كانت أواني) جمع آنية (مياههم) كالجرار والأقداح والخوابي الصغار والكيزان (يتعاطاها) بالغرف والملء (الصبيان) الصغار (والإماء) أي البنات أعم من المملوكة وغيرها (الذين) من صفتهم وشأنهم أنهم (لا يحترزون عن النجاسات) لجهلهم وصغر سنهم (وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة) العجوز (النصرانية) على ما تقدم بيانه (وهذا كالصريح) ، وفي نسخة وتوضؤ عمر رضي الله عنه بماء في جرة النصرانية كالصريح (في أنه لم يعول) أي لم يعتمد (إلا على عدم تغير الماء) في أوصافه (وإلا فنجاسة النصرانية) ونجاسة (إنائها غالبة تعلم بظن قريب) ، وفي نسخة غالبا تعلم بظن قريب، وقال النووي في شرح المهذب: تكره أواني الكفار وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم والمتدين باستعمال النجاسة وغيره، قال: وإذا تطهر من إناء كافر ولم يتيقن طهارته ولا نجاسته، فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمال النجاسة صحت طهارته بلا خلاف، وإن كان من قوم يتدينون بها فوجهان الصحيح منها أنه تصح طهارته .

فإن قيل: إن عمر رضي الله عنه لما توضأ لم يكن معه علم بأن تلك الجرة من بيت نصرانية، كما يعلم ذلك من سوق الحديث الذي ذكرناه آنفا، فالجواب: أليس أنه لما فرغ من وضوئه ومال عن الماء، فقيل له: إنه من جرة العجوز النصرانية، فأتى إليها ودعاها إلى الإسلام إعجابا بمائها، وقد بقي على طهارته ولم ينقل أنه نقض ذلك الطهور بماء آخر، فهو حجة في بيان الاستعمال (فإذا) أي حينئذ (عسر القيام بهذا المذهب الذي هو اشتراط القلتين) ، ثم أيد ذلك بسبعة أدلة فقال: (وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار دليل أول) لما ذهب إليه مالك (وفعل عمر) رضي الله عنه (دليل ثان) عند من يقول: إن أفعال الصحابة حجة كأقوالهم، وإذا تعارض القول مع الفعل فأيهما يقوم؟ فيه خلاف مذكور في كتب الأصول، (والدليل الثالث إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة) أخرجه الدارقطني والطبراني في الأوسط من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين بلفظ: كان يصغي الإناء للهرة فتشرب منه، ثم يتوضأ، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر، وهو ضعيف أيضا، وأخرج الأربعة في حديث مالك من فعل أبي قتادة، وهو في الموطأ عن إسحاق بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن خالتها كبشة بنت كعب، وكانت تحت ابن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإناء حتى شربت. الحديث. (وعدم تغطيتهم الأواني منها) أي من الهرة (بعد أن ترى أنها تأكل الفأرة) وغيرها من حشرات الأرض المستقذرة (ولم تكن في بلادهم) أي في المسكونة منها (حياض) جمع حوض، وهو مجتمع الماء (تلغ السنانير) جمع سنور، وهو الهر وقيل: هو الوحشي منها (فيها) أي في تلك الحياض (وكانت لا تنزل في الآبار) لكونها عميقة ولا ماء عندهم إلا ما في أوانيهم، فإذا لا محالة تشرب من تلك الأواني، وقد قيل ما قيل في حكم سؤرها فقيل بعد اتفاق أصحابنا على كراهية سؤرها هل هي على التحريم وإليه مال الطحاوي أو لأنها لا تتحامى النجاسة، وهذا يدل على التنزه وإليه مال الكرخي، وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الحديث ولو أكلت فأرة، ثم شربت الماء تنجس، ولو مكثت ساعة، ثم شربت لا يتنجس عند أبي حنيفة لغسلها فاها بلعابها، وعند محمد فهو نجس; لأن عنده لا تزول النجاسة إلا بالماء المطلق (و) الدليل (الرابع أن الشافعي رضي الله عنه نص) في القديم (على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت) وقيل: إن لم تتغير حكمها حكم المحل بعد الغسل إن طهر فطاهرة وقيل: حكمها حكم المحل قبل الغسل، كما في الوجيز للمصنف، والغسالة بالضم ما غسلت به الشيء والمراد هنا الماء المستعمل في إزالة النجاسة، وفرعوا على هذه المسألة مسألة العصر وأن الطهارة حاصلة قبله فلا حاجة إليه، وهو الأصح [ ص: 331 ] ومسألة الماء الجاري إذا ورد على النجاسة، فإنه لا ينجس إلا بالتغير، وقد اختاره طائفة من الأصحاب (وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها) أي النجاسة (عليه) ، وكذا شرطهم في مسألة القلتين النجستين أن يورد الطاهر على النجس فيقال: أي فرق بينه وبين أن يورد النجس على الطاهر، ولكن قد يقال: إن الورود عليها له قوة فأشار إلى رفعه بقوله: (وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود رفع النجاسة) أي بقوته عند الورود يمر عليها ويدفعها (مع أن الورود) من حيث هو (لم يمنع مخالطة النجاسة، وإن أحيل ذلك إلى الحاجة) والضرورة (فالحاجة أيضا ماسة إلى هذا) فهي إحالة على غير مليء (فلا فرق بين طرح الماء في إجانة) بالكسر والتشديد إناء تغسل فيه الثياب والجمع أجاجين (فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء) طاهر (كل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني) أشار بذلك إلى قولهم، ورود الثوب النجس على ماء قليل ينجس الماء ولم يطهر الثوب على الأظهر، وقد أجاب الرافعي فقال: الوارد عامل والقوة للعامل، ويدل على الفرق حديث منع المستيقظ من النوم ولولا الفارق بين الوارد والمورود لما انتظم المنع من الغمس والأمر بالغسل .




الخدمات العلمية