الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في الجزية [ ص: 196 ] هي لغة الجزاء ، لأنها جزت عن القتل والجمع جزى كلحية ولحى ، وهي نوعان ( الموضوع من الجزية بصلح لا ) يقدر ولا ( يغير ) تحرزا عن الغدر ( وما وضع بعدما قهروا وأقروا على أملاكهم يقدر في كل سنة على فقير معتمل ) يقدر على تحصيل النقدين بأي وجه كان ينابيع ، وتكفي صحته في أكثر السنة هداية ( اثنا عشر درهما ) في كل شهر درهم ( وعلى وسط الحال ضعفه ) في كل شهر درهمان ( وعلى المكثر ضعفه ) في كل شهر أربعة دراهم وهذا للتسهيل لا لبيان الوجوب لأنه بأول الحول بناية ( ومن ملك عشرة آلاف درهم فصاعدا غني ومن ملك مائتي [ ص: 197 ] درهم فصاعدا متوسط ومن ملك ما دون المائتين أو لا يملك شيئا فقير ) قاله الكرخي ، وهو أحسن الأقوال ، وعليه الاعتماد بحر واعتبر أبو جعفر العرف ، وهو الأصح تتارخانية ، ويعتبر وجود هذه الصفات في آخر السنة [ ص: 198 ] فتح لأنه وقت وجوب الأداء نهر

التالي السابق


فصل في الجزية

هذا هو الضرب الثاني من الخراج ، وقدم الأول لقوته لوجوبه ، وإن أسلموا بخلاف الجزية ، أو لأنه الحقيقة إذ هو المتبادر عند الإطلاق ، ولا يطلق على الجزية إلا مقيدا : أي فيقال خراج الرأس ، وهذا أمارة المجاز ، وبنيت على فعلة دلالة على الهيئة التي هي الإذلال عند الإعطاء نهر . وتسمى جالية من جلوت عن البلد جلاء بالفتح والمد خرجت وأجليت مثله ، والجالية الجماعة ، ومنه قيل لأهل الذمة الذين جلاهم عمر رضي الله عنه عن جزيرة العرب : الجالية ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم ، ثم استعملت في كل جزية تؤخذ ، وإن لم يكن صاحبها أجلي عن وطنه [ ص: 196 ] فقيل استعمل فلان على الجالية ، والجمع الجوالي مصباح ، فإطلاقها على الجزية مجاز بمرتبتين ( قوله لأنها جزت عن القتل ) أي قضت وكفت عنه فإذا قبلها سقط عنه القتل بحر ، أو لأنها وجبت عقوبة على الكفر كما في الهداية قال في الفتح : ولهذا سميت جزية وهي والجزاء واحد وهو يقال على ثواب الطاعة وعقوبة المعصية .

( قوله والجمع جزى ) وفي لغة جزيات مصباح ( قوله لا يقدر ولا يغير ) أي لا يكون له تقدير من الشارع ، بل كل ما يقع الصلح عليه يتعين ولا يغير بزيادة ولا نقص درر وذلك كما صالح عليه الصلاة والسلام أهل نجران ، وهم قوم نصارى بقرب اليمن على ألفي حلة في العام وصالح عمر رضي الله تعالى عنه نصارى بني تغلب ، على أن يؤخذ من كل واحد منهم ضعف ما يؤخذ من المسلم من المال الواجب ، فلزم ذلك وتقدم تفصيله في الزكاة فتح ( قوله وما وضع بعدما قهروا إلخ ) هذا الوضع والتقدير لا يشترط فيه رضاهم كما في الفتح ( قوله على فقير معتمل ) ظاهره أن القدرة على العمل شرط في حق الفقير فقط لقوله الآتي : وفقير غير معتمل ، وليس كذلك بل هو شرط في حق الكل ، ولذا قال في البناية وغيرها : لا يلزم الزمن منهم وإن كان مفرطا في اليسار وكذا لو مرض نصف السنة ، كما في شرح الزيلعي ، فلو حذف الفقير لكان أولى بحر . أي لو حذفه من قوله الآتي فيمن لا يوضع عليه الجزية ، وفقير غير معتمل بأن يقول وغير معتمل ليشمل الفقير وغيره ، لا من قوله هنا على فقير معتمل كما فهمه في النهر ، فاعترضه بأنه لو اقتصر على قوله ومعتمل لما أفاد اشتراط القدرة على العمل في حق الغني كيف وقد قابله به . ا هـ .

قلت : الاعتمال الاضطراب في العمل وهو الاكتساب ، والمراد القدرة عليه حتى لو لم يعمل مع قدرته وجبت كمن عطل الأرض كما في الفتح ، وقال قيد بالاعتمال لأنه لو كان مريضا في نصف السنة فصاعدا لا يجب عليه شيء ا هـ وبه ظهر أن التقييد بالمعتمل هنا واقع في محله ، وأن قوله الآتي لا توضع على زمن وأعمى وفقير غير معتمل تصريح بمفهوم القيد هنا ، وأن عطف الفقير والأعمى على الزمن عطف خاص على عام لأن المراد بالزمن العاجز فلو اقتصر عليه لأغناه لشموله الفقير وغيره وقد يقال : إن غير المعتمل أعم ، لأنه يشمل ما إذا كان سالم الآلات صحيح البدن ، لكنه لا يقدر على الكسب لخرقه وعدم معرفته حرفة يكتسب منها ، وعلى هذا فتكون القدرة على العمل شرطا في الفقير فقط إذ لا شك أن غير الفقير توضع عليه إذا كان صحيحا غير زمن ، ولا أعمى ، وإن لم يكن معتملا بهذا المعنى المذكور فيتعين تفسير غير المعتمل بما ذكرنا ليندفع الاستدراك على عبارات المتون ، ثم رأيت في القهستاني ما يؤيده حيث قال : وفيه إشارة إلى أن الفقير هو الذي يعيش بكسب يده في كل يوم ، فلو فضل على قوته وقوت عياله أخذت منه وإلا فلا وإلى أن غيره من لا حاجة له إلى الكسب للنفقة في الحال .

( قوله وهذا للتسهيل إلخ ) الإشارة إلى قوله في كل شهر درهم وقوله في كل شهر : درهمان وقوله في كل شهر : أربعة وفي القهستاني عن المحيط إنها تجب في أوله عندهم لأنها جزاء القتل وبعقد الذمة يسقط الأصل ، فوجب خلفه في الحال إلا أنه يخاطب بأداء الكل عنده في آخر الحول تخفيفا ، وبأداء قسط شهرين عند أبي يوسف آخرهما ، وقسط شهر عند محمد في آخره . ا هـ . ومثله في التتارخانية فما ذكره الشارح تبعا للهداية قول محمد . [ ص: 197 ] والحاصل : أنها تجب في أول العام وجوبا موسعا كالصلاة وإنما يجب الأداء في آخره أو في آخر كل شهرين أو شهر للتسهيل والتخفيف عليه ( قوله واعتبر أبو جعفر العرف ) حيث قال ينظر إلى عادة كل بلد في ذلك .

ألا ترى أن صاحب خمسين ألفا ببلخ يعد من المكثرين ، وفي البصرة وبغداد لا يعد مكثرا وذكره عن أبي نصر محمد بن سلام فتح ( قوله : وهو الأصح ) صححه في الولوالجية أيضا قال في الدر المنتقى : والصحيح في معرفة هؤلاء عرفهم ، كما في الكرماني وهو المختار كما في الاختيار ، وذكره القهستاني ، واعترف في المنح تبعا للبحر بأنه أي التحديد لم يذكر في ظاهر الرواية ، ولا يخفى أن الأول أي اعتبار العرف أقرب لرأي صاحب المذهب وأقره في الشرنبلالي وفي شرح المجمع وغيره : وينبغي تفويضه للإمام أي كما هو رأي الإمام وفي التتارخانية إنه الأصح فتبصر . ا هـ .

يعني إن رأى الإمام أن المقدرات التي لم يرد بها نص لا تثبت بالرأي ، بل تفوض إلى رأي المبتلى كما قال في الماء الكثير وفي غسل النجاسة وغير ذلك ( قوله ويعتبر وجود هذه الصفات في آخر السنة إلخ ) قال في البحر وينبغي اعتبارها في أولها لأنه وقت الوجوب . ا هـ .

ورده في النهر بأنهم اعتبروا وجودها في آخرها لأنه وقت وجوب الأداء ، ومن ثم قالوا لو كان في أكثر السنة غنيا أخذ منه جزية الأغنياء ، أو فقيرا أخذت منه جزية الفقراء ولو اعتبر الأول لوجب إذا كان في أولها غنيا فقيرا في أكثرها أن يجب جزية الأغنياء ، وليس كذلك نعم الأكثر كالكل ا هـ واعترضه محشي مسكين ، بأن ما أورده على اعتبار الأول مشترك الإلزام إذ هو وارد أيضا على اعتبار الآخر لاقتضائه وجوب جزية الأغنياء إذا كان غنيا في آخرها فقيرا في أكثرها . ا هـ .

قلت : وحاصله أنه إذا كان المعتبر الوصف الموجود في أكثر السنة فلا فرق بين كونه في أولها أو آخرها ، وعلى هذا فمن اعتبر آخرها أراد إذا كان ذلك الوصف موجودا في أكثرها ، وعلى هذا فلا اعتبار لخصوص الأول أو الآخر لكن سيذكر المصنف أن المعتبر في الأهلية وعدمها وقت الوضع ، بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث توضع عليه . وحاصله على وجه يحصل به التوفيق بينه وبين اعتبار أكثر السنة أن من كان من أهلها وقت الوضع وضعت عليه ، وذلك بأن يكون حرا مكلفا وإلا لم توضع عليه ، وإن صار أهلا بعده كما سيأتي ومنكان أهلا وقت الوضع لكن قام به عذر لم توضع عليه إلا إذا زال العذر بعده كالفقير إذا أيسر والمريض إذا صح لكن بشرط أن يبقى من السنة أكثرها وعلى هذا فيعتبر أول السنة لتعرف الأهل من غيره ، وبعد تحقق الأهلية لا يعتبر أولها في حق تغير الأوصاف ، بل يعتبر أكثرها فيه كما إذا كان مريضا في أولها ، فإن صح بعده في أكثرها وجبت ، وإلا فلا وكذا لو كان فقيرا غير معتمل ، ثم صار فقيرا معتملا أو متوسطا أو غنيا في أكثرها ، وعلى هذا يحمل ما في الولوالجية وغيرها من أن الفقير لو أيسر في آخر السنة أخذت منه . ا هـ . أي إذا أيسر أكثرها ، وعلى هذا عكسه بأن كان غنيا في أولها فقيرا في آخرها اعتبر ما وجد في أكثرها ، لكن ما مر من أنه يؤخذ في كل شهر قسط يؤخذ ممن كان غنيا في أولها شهرين مثلا قسط شهرين دون الباقي لما في القهستاني عن المحيط يسقط الباقي في جزية السنة إذا صار شيخا كبيرا أو فقيرا أو مريضا نصف سنة أو أكثر . ا هـ . وأشار إلى أن ما نقص عن نصف سنة لا يجعل عذرا ولذا قال في الفتح : إنما يوظف على المعتمل إذا كان صحيحا في أكثر السنة وإلا فلا جزية عليه لأن الإنسان لا يخلو عن قليل مرض فلا يجعل القليل منه عذرا وهو ما نقص عن نصف العام . ا هـ .

هذا ما ظهر لي [ ص: 198 ] في تحير هذا المحل والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية