الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يبدأ من تركة الميت الخالية عن تعلق حق الغير بعينها كالرهن والعبد الجاني ) والمأذون المديون والمبيع المحبوس بالثمن والدار المستأجرة وإنما قدمت على التكفين لتعلقها بالمال قبل صيرورته تركة ( بتجهيزه ) يعم التكفين ( من غير تقتير ولا تبذير ) [ ص: 760 ] ككفن السنة أو قدر ما كان يلبسه في حياته ولو هلك كفنه فلو قبل تفسخه كفن مرة بعد أخرى وكله من كل ماله ( ثم ) تقدم ( ديونه التي لها مطالب من جهة العباد ) ويقدم دين الصحة على دين المرض إن جهل سببه وإلا فسيان كما بسطه السيد ، ( وأما دين الله تعالى فإن أوصى به وجب تنفيذه من ثلث الباقي وإلا لا ثم ) تقدم ( وصيته ) [ ص: 761 ] ولو مطلقة على الصحيح خلافا لما اختاره في الاختيار ( من ثلث ما بقي ) بعد تجهيزه وديونه وإنما قدمت في الآية اهتماما لكونها مظنة التفريط ( ثم ) رابعا بل خامسا ( يقسم الباقي ) بعد ذلك ( بين ورثته ) [ ص: 762 ] أي الذين ثبت إرثهم بالكتاب أو السنة كقوله عليه الصلاة والسلام { أطعموا الجدات بالسدس } أو الإجماع فجعل الجد كالأب وابن الابن كالابن

التالي السابق


( قوله الخالية إلخ ) صفة كاشفة لأن تركه الميت من الأموال صافيا عن تعلق حق الغير بعين من الأموال كما في شروح السراجية .

واعلم أنه يدخل في التركة الدية الواجبة بالقتل الخطأ أو بالصلح عن العمد أو بانقلاب القصاص مالا بعفو بعض الأولياء ، فتقضى منه ديون الميت وتنفذ وصاياه كما في الذخيرة ( قوله بعينها ) متعلق بقوله تعلق ( قوله كالرهن إلخ ) مثال للعين التي تعلق بها حق الغير إذا رهن شيئا وسلمه ولم يترك غيره فدين المرتهن مقدم على التجهيز فإن فضل بعده شيء صرف إليه ( قوله والعبد الجاني ) أي في حياة مولاه ولا مال له سواه فإن المجني عليه أحق به من المولى إلا أن يفضل بعد أرش الجناية شيء .

[ تنبيه ] لو كان العبد الجاني هو المرهون قدم حق المجني عليه ، لأنه أقوى لثبوته على ذمة العبد ، وحق المرتهن في ذمة الراهن ومتعلق برقبة العبد لا في ذمته ذكره يعقوب باشا في حاشية شرح السراجية للسيد الشريف ( قوله والمأذون المديون ) أي فإذا مات المولى ولا مال له سواه قدم الغرماء على التجهيز ( قوله والمبيع المحبوس بالثمن ) كما لو اشترى عبدا ولم يقبضه فمات قبل نقد الثمن ، فالبائع أحق بالعبد من تجهيز المشتري . قال يعقوب باشا : أما إذا كان المبيع في يد المشتري ، ومات عاجزا عن أداء الثمن فإنه يبدأ برجوعه لا مطلقا ، بل إذا لم يتعلق به شيء من الحقوق اللازمة كما إذا كاتبه المشترى أو رهنه أو استولده أو جنى ذلك المبيع على غيره ، فإنه حينئذ لم يثبت له حق الرجوع لمانع قوي ، حتى لو عجز المكاتب وعاد إلى الرق أو فك الرهن أو فدي من الجناية ، فله الرجوع لزوال ذلك المانع ا هـ ونقل مثله ط عن حاشية عجم زاده على شرح السيد ثم قال وانظر هذا مع قولهم إن البائع أسوة الغرماء فيه عندنا ا هـ أي فيما إذا قبض المشتري المبيع ولم يذكروا فيه إلا خلاف الشافعي كما تقدم قبيل خيار الشرط ، والظاهر أن ما ذكر هنا مأخوذ من كتب الشافعية فليتنبه له .

( قوله والدار المستأجرة ) فإنه إذا أعطى الأجرة أولا ثم مات الآجر صارت الدار هنا بالأجرة سيد قال ط : زاد في روح الشروح على ما ذكر العبد الذي جعل مهرا يعني إذا مات الزوج وهو في يده ولا مال له سواه فإن الزوجة تقدم على تجهيز الزوج ، والمقبوض بالبيع الفاسد إذا مات البائع قبل الفسخ : أي فإن المشترى مقدم على تجهيز البائع ( قوله وإنما قدمت إلخ ) أي هذه الحقوق المتعلقة بهذه الأعيان ، والأصل أن كل حق يقدم في الحياة يقدم في الوفاة در منتقى ، وتقديمها على التجهيز هو الذي جزم به في المعراج ، وكذا شراح الكنز والسراجية بل حكى بعض شراح السراجية الاتفاق عليه ، فما ذكره مسكين من أن ذلك رواية وأن الصحيح تقديم التجهيز قال في الدر المنتقى منظور فيه ، بل تعليلهم يفيد أنه ليس بتركة أصلا ا هـ أي فلا يرد على إطلاق المتون من أنه يبدأ من التركة بالتجهيز ( قوله بتجهيزه ) وكذا تجهيز من تلزمه نفقته ، كولد مات قبله ولو بلحظة وكزوجته ، ولو غنية على المعتمد در منتقى .

( قوله يعم التكفين ) كأنه يشير إلى أن قول السراجية : يبدأ بتكفينه وتجهيزه من عطف العام على الخاص ( قوله من غير تقتير ولا تبذير ) التقتير هو التقصير والتبذير يستعمل في المشهور بمعنى الإسراف ، والتحقيق أن بينهما فرقا وهو أن الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي ، والتبذير [ ص: 760 ] صرفه فيما لا ينبغي صرح به الكرماني في شرح البخاري يعقوب ، وعليه فالمناسب التعبير بالإسراف بدل التبذير موافقا لقوله تعالى - { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } - لكنه راعى المشهور ( قوله ككفن السنة ) أي من حيث العدد وقوله أو قدر ما كان يلبسه في حياته أي من حيث القيمة ، وأو بمعنى الواو قال في سكب الأنهر : ثم الإسراف نوعان من حيث العدد بأن يزاد في الرجل على ثلاثة أثواب ، وفي المرأة على خمسة ومن حيث القيمة بأن يكفن فيما قيمته تسعون ، وقيمة ما يلبسه في حياته ستون مثلا والتقتير أيضا نوعان عكس الإسراف عددا وقيمة ا هـ وهذا إذا لم يوص بذلك ، فلو أوصى تعتبر الزيادة على كفن المثل من الثلث ، وكذا لو تبرع الورثة به أو أجنبي ، فلا بأس بالزيادة من حيث القيمة لا العدد ، وهل للغرماء المنع من كفن المثل قولان والصحيح نعم در منتقى : أي فيكفن بكفن الكفاية وهو ثوبان للرجل وثلاثة للمرأة ابن كمال .

( قوله أو قدر ما كان يلبسه في حياته ) أي من أوسط ثيابه ، أو من الذي كان يتزين به في الأعياد والجمع والزيارات على ما اختلفوا فيه زيلعي ( قوله ولو هلك كفنه إلخ ) قال في سكب الأنهر : وإذا نبش قبر الميت وأخذ كفنه يكفن في ثلاثة أثواب ولو ثالثا أو رابعا ما دام طريا ولا يعاد غسله ولا الصلاة عليه ، وإن تفسخ يلف في ثوب واحد كل ذلك من أصل ماله عندنا ، وإن كان عليه دين إلا أن يكون الغرماء قد قبضوا التركة ، فلا يسترد منهم وإن كان قد قسم ماله ، فعل كل وارث بقدر نصيبه دون الغرماء ، وأصحاب الوصايا لأنهم أجانب ، ولا تجبر الورثة على قبول كفن متبرع ، لأن فيه لحوق العار بهم إلا إذا كان الورثة صغارا ، فحينئذ لو رأى الإمام مصلحة يقبل إلا أن يختاروا القيام بأنفسهم فحينئذ هم أولى به ا هـ أي إلا أن يختار الكبار منهم تأمل ( قوله ويقدم دين الصحة ) هو ما كان ثابتا بالبينة مطلقا أو بالإقرار في حال الصحة ط .

وقد يرجح بعضه كدين الأجنبي على مكاتب مات عن وفاء يقدم على دين المولى وكالدين الثابت على نصراني بشهادة المسلمين ، فإنه مقدم على الثابت بشهادة أهل الذمة عليه والدين الثابت بدعوى المسلم عليه يقدم على الدين الثابت عليه بدعوى كافر إذا كان شهودهما كافرين ، أو شهود الكافر فقط أما إذا كان شهودهما مسلمين أو شهود الكافر فقط ، فهما سواء كما في حاشية البحر للرملي من كتاب الشهادات فافهم ( قوله على دين المرض ) هو ما كان ثابتا بإقراره في مرضه أو فيما هو في حكم المرض كإقرار من خرج للمبارزة أو أخرج للقتل قصاصا أو ليرجم ط عن عجم زاده ( قوله إن جهل سببه ) أما إذا علم بأن أقر في مرضه بدين علم ثبوته بطريق المعاينة ، كما يجب بدلا عن مال ملكه أو استهلكه كان ذلك بالحقيقة من دين الصحة إذ قد علم وجوبه بغير إقراره ، فلذلك ساواه في الحكم ا هـ سيد ( قوله وأما دين الله تعالى إلخ ) محترز قوله من جهة العباد وذلك كالزكاة والكفارات ونحوها قال الزيلعي فإنها تسقط بالموت فلا يلزم الورثة أداؤها إلا إذا أوصى بها ; أو تبرعوا بها هم من عندهم ، لأن الركن في العبادات نية المكلف وفعله ، وقد فات بموته فلا يتصور بقاء الواجب ا هـ وتمامه فيه ، أقول : وظاهر التعليل أن الورثة لو تبرعوا بها لا يسقط الواجب عنه لعدم النية منه ولأن فعلهم لا يقوم مقام فعله بدون إذنه تأمل ( قوله من ثلث الباقي ) أي الفاضل عن الحقوق المتقدمة ، وعن دين العباد فإنه يقدم لو اجتمع مع دين الله تعالى ، لأنه تعالى هو الغني ونحن الفقراء كما في الدر المنتقى .

( قوله ثم تقدمت وصيته ) أي [ ص: 761 ] على القسمة بين الورثة قال الزيلعي : ثم هذا ليس بتقديم على الورثة في المعنى ، بل هو شريك لهم حتى إذا سلم له شيء سلم للورثة ضعفه أو أكثر ولا بد من ذلك ، وهذا ليس بتقديم في الحقيقة ، بخلاف التجهيز والدين فإن الورثة والموصى له لا يأخذون إلا ما فضل عنهما ا هـ ( قوله ولو مطبقة على الصحيح ) كذا قاله السيد وغيره ثم قال وقال شيخ الإسلام خواهر زاده إن كانت معينة كانت مقدمة عليه وإن كانت مطلقة كأن يوصي بثلث ماله أو ربعه كانت في معنى الميراث لشيوعها في التركة فيكون الموصى له شريكا للورثة لا مقدما عليهم ، ويدل على شيوع حقه فيها كحق الوارث أنه إذا زاد المال بعد الوصية زاد على الحقين ، وإذا نقص نقص عنهما حتى إذا كان ماله حال الوصية مثلا ألفا ، ثم صار ألفين فله ثلث الألفين وإن انعكس فله ثلث الألف ا هـ .

قال الأكمل : ولعل الصواب معه فإن التقديم إنما يتصور فيه بجعل حق الموصى له متعلقا بالصورة والمعنى إذا خرج من الثلث فيمنع تعلق حق الوارث بصورته ، فكان ذلك تقديما على الورثة ، وأما إذا كانت مطلقة فلا يتصور هناك تقديم ا هـ ( قوله خلافا لما اختاره في الاختيار ) أي من قول شيخ الإسلام المتقدم ونصه فإن كانت الوصية بعين تعتبر من الثلث وتنفذ وإن كانت بجزء شائع كالثلث والربع ، فالموصى له شريك للورثة يزداد نصيبه بزيادة التركة ، وينقص بنقصها بحسب المال ويخرج نصيب الموصى له كما يخرج نصيب الوارث ، ويقدم على قسمة التركة بين الورثة لما تلونا ا هـ .

والحاصل : أنه لا خلاف في تقديم الوصية بعين كالدار والثوب مثلا بمعنى أنها إذا خرجت من الثلث فلا حق للورثة فيها ، فتفرز وحدها ، ويقسم بين الورثة ما سواها ، وأما الوصية المطلقة فمن نظر إلى أنها شائعة في التركة تزداد بزيادتها وبالعكس . قال : لا تقديم فيها بل الموصى له شريك للورثة دائما بمعنى أنه لا يمكن أن ينفرد بالأخذ ، وإن استغرق التركة ، بخلاف الدين ونحوه ومن نظر إلى أن قسمة الميراث لا تكون إلا بعد إخراج نصيب الموصى له قال : إنها مقدمة لأنه لو لم يفرز نصيبه أولا بل اعتبر شريكا مع الورثة لزم أن يقسم له معهم كأنه واحد منهم له ثلث التركة مثلا ويلزم منه الخلل مثلا لو تركت زوجا وأختين شقيقتين ، وأوصت بالثلث لزيد فيخرج الثلث الموصى به أولا فيأخذ زيد واحدا من ثلاثة ثم يقسم الباقي من سبعة ، للزوج ثلاثة وللشقيقتين أربعة ، وإلا لزم أن تقسم التركة من تسعة ، فيأخذ الموصى له اثنين ، والزوج ثلاثة والشقيقتان أربعة ، فينقص نصيب الموصى له وأنت إذا حققت النظر يظهر لك أن الخلاف لفظي لأن كل واحد من أصحاب القولين يسلم ما قاله الآخر ، وإنما النزاع في أن إخراج نصيب الموصى له أولا هل يسمى تقديما أم لا ويدل عليه كلام الزيلعي السابق وكذا كلام صاحب الاختيار فإنه تابع شيخ الإسلام في القول بالمشاركة ، ثم ذكر أن نصيب الموصى له يقدم على قسمة التركة فقد جمع بين المشاركة والتقديم فاغتنم هذا التحقيق الذي هو بالقبول حقيق ، والله تعالى ولي التوفيق .

( قوله في الآية ) أي قوله تعالى - { من بعد وصية يوصى بها أو دين } - ( قوله لكونها مظنة التفريط ) لأنها مأخوذة بلا عوض فتشق على الورثة ، ولا تطيب نفوسهم بها بخلاف الدين أو لكونها برا وطاعة ، والدين مذموم غالبا ولذا استعاذ منه عليه الصلاة والسلام أو لأن حكمها كان مجهولا عند المخاطبين ، بخلاف الدين وتمامه في سكب الأنهر عن الزمخشري ( قوله بل خامسا ) باعتبار البداءة قبل التجهيز بعين تعلق بها حق الغير لكن تقدم أنها ليست من التركة ، والمراد بيان الحقوق المتعلقة بالتركة فهي حينئذ أربعة ( قوله يقسم الباقي ) لم يقل يقدم كما قال [ ص: 762 ] في سابقه لأنه آخر الحقوق فلم يبق ما يقدم عليه ( قوله أي الذين ثبت إرثهم بالكتاب ) أي القرآن وهم الأبوان والزوجان والبنون والبنات والإخوة والأخوات ( قوله أو السنة ) أو هنا وفيما بعده مانعة الخلو فتصدق باجتماع الثلاثة والمراد بالسنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان فعلا كبنت الابن والأخوات لأبوين أو لأب مع البنت الصلبية والجدة أم الأم أو قولا كما مثل الشارح أفاده في سكب الأنهر ( قوله أو الإجماع ) أي اتفاق رأي المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر ما على حكم شرعي ، وقيل المراد به هنا : قول مجتهد واحد من إطلاق اسم الكل على الجزء كإطلاق القرآن على كل آية منه ، ليشمل من اختلف في وراثته كذوي الأرحام وفيه نظر ، لأنه يخرج عنه ما اتفق عليه رأي المجتهدين ولأن من اختلف في وراثته دليله عند القائل به الكتاب أو السنة فلا حاجة إلى التأويل ( قوله فجعل الجد كالأب إلخ ) وكجعل الجدة كالأم وبنت الابن كالبنت الصلبية والأخ لأب كالشقيق والأخت لأب كالشقيقة سكب الأنهر




الخدمات العلمية