الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة أو الترك للقتال ؛ أي حال تركوا فيها القتال فقد فاؤوا وحرم قتالهم : لأنه أمر أن يقاتل ، وإنما يقاتل من يقاتل ، فإذا لم يقاتل حرم بالإسلام أن يقاتل ، فأما من لم يقاتل فإنما يقال : اقتلوه لا [ ص: 115 ] قاتلوه . نادى منادي علي رضي الله عنه يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وأتي علي رضي الله عنه يوم صفين بأسير ، فقال له علي : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ، فخلى سبيله والحرب يوم صفين قائمة ، ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا ، أو مستعليا ، فبهذا كله أقول وأما إذا لم تكن جماعة ممتنعة فحكمه القصاص ، قتل ابن ملجم عليا متأولا فأمر بحبسه ، وقال لولده : إن قتلتم فلا تمثلوا ، ورأى عليه القتل ، وقتله الحسن بن علي رضي الله عنه ، وفي الناس بقية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد ، ولم يقد علي - وقد ولي قتال المتأولين - ولا أبو بكر من قتله الجماعة الممتنع مثلها على التأويل على ما وصفنا ولا على الكفر ، وإن كان بارتداد إذا تابوا ، قد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ، ثم أسلم فلم يضمن عقلا ولا قودا ، فأما جماعة ممتنعة غير متأولين قتلت وأخذت المال ، فحكمهم حكم قطاع الطريق . ( قال المزني ) رحمه الله : هذا خلاف قوله في قتال أهل الردة : لأنه ألزمهم هناك ما وضع عنهم ههنا ، وهذا أشبه عندي بالقياس " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وأصل هذا : قول الله تعالى : فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] .

                                                                                                                                            فكان قوله : فقاتلوا يتضمن الأمر بقتالهم لا بقتلهم .

                                                                                                                                            وقوله : حتى تفيء إلى أمر الله هو الغاية في إباحة قتالهم .

                                                                                                                                            والفيئة في كلامهم : الرجوع ، وهو على ثلاثة أضرب تتفق أحكامها وإن اختلفت أنواعها :

                                                                                                                                            أحدها : أن يرجعوا إلى طاعة الإمام والانقياد لأمره ، فهو غاية ما أريد منهم ، وقد خرجوا به من البغي اسما وحكما ، وصاروا داخلين في أحكام أهل العدل .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يلقوا سلاحهم مستسلمين ، فالواجب الكف عنهم : لأن الله تعالى أمر بقتالهم لا بقتلهم ، وخالفوا أهل الحرب إذا ألقوا سلاحهم في جواز قتلهم : لأن الأمر في أهل الحرب متوجه إلى قتلهم ، وفي أهل البغي إلى قتالهم .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يولوا منهزمين فيجب الكف عنهم ، ولا يتبعوا بعد هزيمتهم .

                                                                                                                                            فقد نادى منادي علي يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ، عليهم السلام قال : دخل علي [ ص: 116 ] مروان فقال لي : ما رأيت أكرم غلبة من أبيك ، ما كان إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح .

                                                                                                                                            ولما ولى الزبير عن القتال وخرج عن الصف ، قال علي : أفرجوا للشيخ فإنه محرم ، فمضى وتبعه عمرو بن جرموز حتى ظفر باغتياله فقتله بوادي السباع ، وأتى عليا برأسه ، فقال علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار . فقال عمرو : أف لكم إن كنا معكم أو عليكم في النار ، فقام وهو يقول :

                                                                                                                                            أتيت عليا برأس الزبير وكنت أظن بها زلفتي     فبشر بالنار قبل الوعيد
                                                                                                                                            وبئس بشارة ذي التحفة

                                                                                                                                            وولى طلحة بن عبيد الله ، فلم يعرض له أحد من أصحاب علي حتى رماه مروان بن الحكم بسهم في أكحله فقتله ، وكان في عسكر طلحة والزبير ، فلما كان في الليل سار علي عليه السلام ومعه قنبر مولاه بمشعلة يتصفح القتلى ، فمر بطلحة قتيلا ، فوقف عليه وبكى وقال :

                                                                                                                                            أعزز علي أبا محمد أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، شفيت غيظي وقتلت معشري ، إلى الله أشكو عجري وبجري ، ثم أنشأ يقول :

                                                                                                                                            فتى كان يعطي السيف في الروع حقه     إذا ثوب الداعي ويشقى به الجور
                                                                                                                                            فتى كان يدنيه الغنى من صديقه     إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية