الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولا يجوز على الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعة ، يقولون : رأينا ذلك منه يدخل في ذلك منها دخول المرود في المكحلة . ( قال المزني ) رحمه الله : قلت : أنا ولم يجعل في كتاب الشهادات إتيان البهيمة زنا ، ولا في كتاب الطهارة في مس فرج البهيمة وضوءا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه المسألة تشتمل على أربعة فصول :

                                                                                                                                            أحدها : في الزنا .

                                                                                                                                            والثاني : في اللواط .

                                                                                                                                            والثالث : في إتيان البهائم .

                                                                                                                                            والرابع : في الشهادة على ذلك .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول وهو الزنا : فهو أن يطأ الرجل المرأة بغير عقد ولا شبهة عقد ، ولا بملك ، ولا شبهة ملك ، ولا شبهة فعل عالما بالتحريم ، فيجتمع في وطئه هذه الشروط الستة . فأما العقد : فهو ما صح من المناكح .

                                                                                                                                            وأما شبهة العقد : فهو ما احتمله الاجتهاد من العقود الفاسدة ، كنكاح المتعة ، والشغار ، والنكاح بغير ولي ولا شهود ، فهذا وما جانسه من شبهة العقود المانع من حد الزنا ، والموجب للحوق الولد .

                                                                                                                                            وأما العقد على ذوات المحارم كالأمهات ، والأخوات ، والخالات ، والعمات من نسب أو رضاع ، فلا يكون من شبهة العقود ، ويكون الواطئ فيه زانيا يجب عليه الحد ، وكذلك لو نكح معتدة أو مطلقة منه ثلاثا قبل زوج ووطء فيه ، كان من هذه الأحوال كلها زانيا ، وبه قال أبو يوسف ومحمد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : اسم العقد يمنع من وجوب الحد ، وإذا وطء أمه ، أو أخته ، أو معتدة بعقد نكاح ، لم يجب الحد على واحد منهما . حتى قال أبو حنيفة : لو استأجر امرأة [ ص: 218 ] ليزني بها أو يستخدمها فوطئها ، فلا حد على واحد منهما استدلالا بأنه وطء عن عقد فاسد ، فوجب أن يسقط فيه الحد قياسا على سائر المناكح الفاسدة .

                                                                                                                                            قال : ولأنه وطء لا يحد به الكافر ، فوجب أن لا يحد به المسلم كالنكاح بغير ولي .

                                                                                                                                            قال : ولأن ما لم ينطلق عليه اسم الزنا لم يجر عليه حكم الزنا : لأن الحكم تابع للاسم . واستدل بأن اسم الزنا غير منطلق عليه : أن المجوس ينكحون أمهاتهم وأخواتهم ، ولا يجري عليهم اسم الزنا ولا حكمه .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة [ النساء : 22 ] ، والفاحشة في عرف الشرع هي الزنا لقوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم [ النساء : 15 ] .

                                                                                                                                            وروى داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من وقع على ذات محرم فاقتلوه وهذا محمول على مواقعتها بالنكاح : لأن غير النكاح يستوي فيه ذات المحارم وغيرها .

                                                                                                                                            وروى أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : مر بي خالي أبو بردة بن دينار ومعه لواء ، فقلت أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برأسه .

                                                                                                                                            وروي عن البراء بن عازب قال : بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت ، إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء ، فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه ، فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه . [ ص: 219 ] ولم يكن هذا منهم إلا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل أن يكون هذان الخبران في رجلين ، وهو الأظهر : لاختلاف الحالين .

                                                                                                                                            واحتمل أن يكون في رجل واحد ، روي على لفظتين مختلفتين ، وحالتين متقاربتين ، وأيهما كان فهو دليل .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه وطء محرم بدواعيه غير مختلف فيه ، فوجب أن يكون مع العلم بتحريمه موجبا للحد ، إذا لم يصادف ملكا قياسا عليه إذا تجرد عن عقد .

                                                                                                                                            فإن قيل : العقد شبهة .

                                                                                                                                            قيل : الشبهة ما اشتبه حكمه بالاختلاف في إباحته كنكاح المتعة ، وهذا غير مشتبه للنص على تحريمه ، فلم يكن شبهة .

                                                                                                                                            وقولنا : يحرم بدواعيه ، احترازا من وطء المحرمة والصائمة الحائض .

                                                                                                                                            وقولنا : غير مختلف فيه ، احترازا من المناكح المختلف فيها .

                                                                                                                                            وقولنا : إذا لم يصادف ملكا ، احترازا من الأمة المشتركة بين اثنين . ولأنه عقد على من لا يستباح بحال ، فوجب أن يكون وجوده كعدمه ، كالعقد على الغلام ، ولأن هذا العقد لا تأثير له : لوجود التحريم بعده كوجوده قبله .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على المناكح الفاسدة فالمعنى فيه : ما ذكرنا من اختلاف الناس فيه . وقياسهم على الكافرين فالمعنى فيه : أنهم يرونه مباحا في دينهم . واستدلالهم بأنه لا ينطلق عليه اسم الزنا فغير صحيح : لأن اسم الزنا لا ينطلق عليه في المجوس : لاعتقادهم إباحته ، وينطلق عليه من المسلمين للنص والإجماع على تحريمه ، فهذا حكم العقد وشبهته ، وهما شرطان من الستة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية