الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما الأنبذة المسكرة سوى الخمر ، فقد اختلف الفقهاء في إجراء تحريم الخمر عليها . فذهب الشافعي ومالك وفقهاء الحرمين : إلى أن ما أسكر كثيره من جميع الأنبذة قليله حرام . ويجري عليه حكم الخمر في التحريم والنجاسة والحد ، سواء كان نيئا أو مطبوخا ، وهو قول أكثر الصحابة . وذهب كثير من فقهاء العراق إلى إباحته ، فأباح بعضهم جميع الأنبذة من غير تفصيل . وقال أبو حنيفة : أما عصير العنب إذا لم يمسه طبخ فهو الخمر الذي يحرم قليله وكثيره ، ويحكم بنجاسته ووجوب الحد في شربه ، فإن طبخ فذهب ثلثاه حل ، ولا حد فيه حتى يسكر ، وإن ذهب أقل من ثلثه فهو حرام ، ولا حد فيه حتى يسكر . وما عمل من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فجميعه حلال ، طبخ أو لم يطبخ ، أسكر أو لم يسكر ، ولا حد فيه حتى يسكر ، ويحرم منه القدح المسكر ، وجميع الأنبذة عنده طاهرة ، وإن حرمت سوى الخمر ، ولا ينطلق على شيء منها اسم الخمر ، ولا يعلل تحريم الخمر فصار الخلاف معه مشتملا على خمسة فصول : أحدها : هل ينطلق على الأنبذة المسكرة اسم الخمر ؟ عندنا ينطلق وعنده لا ينطلق . والثاني : هل يحرم قليلها وكثيرها ؟ عندنا يحرم ، وعنده لا يحرم . والثالث : هل تنجس كالخمر ؟ عندنا تنجس ، وعنده لا تنجس . والرابع : هل يتعلق وجوب الحد بالشرب أو بالسكر ؟ عندنا بالشرب ، وعنده بالسكر . والخامس : هل تحريم الخمر معلل أو غير معلل ؟ عندنا معلل وعنده غير معلل . واستدل أبو حنيفة على إباحة النبيذ في الجملة ، وإن كان مذهبه فيه على ما قدمناه من التفصيل : بقول الله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] . والسكر : هو المسكر في قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة . فدلت الآية على إباحته . وبما روى أبو عون ، عن عبد الله بن شداد ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام : [ ص: 388 ] إباحة النبيذ : لأنه حرم السكر دون المسكر ، ولأنه لا ينطلق عليه اسم الخمر وأن تحريم الخمر غير معلل : ولأنه حرمها بعينها لا لعلة ، واستدل برواية منصور ، عن مخلد ، عن سعد ، عن أبي مسعود البدري الأنصاري ، قال : عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فاستسقى ، فأوتي بنبيذ من السقاية ، فشمه وقطب وجهه ، ودعا بذنوب من ماء زمزم ، فصب عليه ، وشرب منه ، وقال : إذا غلت عليكم هذه الأشربة ، فاكسروها بالماء . وروى عبد الله بن عباس قال : كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيستقى الخدم ، أو يهراق . ولو كان حراما ما سقاه الخدم . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء ، فإن لم يكن فتور من حجارة . وروى أبو مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النبيذ أحلال أم حرام ؟ فقال : حلال . وهذان الحديثان نص وفعل في إباحة النبيذ . واستدل بما روى عبد الله بن الديلمي ، عن أبيه ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله : إن لنا أعنابا فما نصنع بها ؟ فقال : زببوها . فقلنا : ما نصنع بالزبيب ؟ قال : أنبذوه على عشائكم ، واشربوه على غدائكم ، وأنبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم ، وأنبذوه في الشنان يريد الجلد ولا تنبذوا في القلل ، فإنه إن تأخر عن عصره صار خلا . واستدل بما روي عن ابن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : الظروف لا تحرم شيئا ، فاشربوا ولا تسكروا . [ ص: 389 ] وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : انظروا هذه الأسقية إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء . واستدل بحديث أبي سعيد الخدري قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشوان ، فقال له : أشربت خمرا ؟ فقال له : لا ، والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله . قال : فماذا شربت ؟ قال : الخليطين . فدل على أنه لا ينطلق على النبيذ اسم الخمر ، ولا يحرم بخلاف الخمر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : اشربوا ولا تسكروا ، فإن اشتد عليكم فاكسروه بالماء واستدل بما روى عبد الله بن مسعود أنه قال : " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ونسيتم " . فمن ذلك ما روى قيس بن أبي حازم ، عن عتبة بن فرقد : أنه قدم على عمر بن الخطاب ، فدعا بعشر من نبيذ شديد ، فقال : اشرب فأخذته فشربت فما كدت أسبقه ، ثم أخذ فشرب ثم قال : يا عتبة ، إننا ننحر كل يوم جزورا ودكها وأطايبها ، فلمن حضر من آفاق المسلمين عنقها ، فلآل عمر نأكل هذا اللحم الغليظ ، ونشرب هذا النبيذ الشديد ، يقطعه في بطوننا أن يؤذينا . وهذا فعل منتشر لم ينكره عليه أحد فصار كالإجماع . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل سكران فجلده ، فقال : إنما شربت من إدواتك . فقال : إنما أضربك على السكر منها ، ولا أضربك على الشرب . فدل على تحريم السكر دون الشرب . وروي أن علي بن أبي طالب أضاف عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وسقاه نبيذا ، فلما دخل الليل وأراد أن ينصرف دفعه إلى خادمه قنبر ، ومعه مزهر ليهديه إلى بيته ، والمزهر : السراج ، وقال له : اهده . يعني إلى منزله لسكره . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من جماعة يجلسون على شراب إلا وينصرفون عنه وقد حرم عليهم . يعني أنهم لا يقتصرون على ما لا يسكر حتى يتجاوزوه إلى ما يسكر . [ ص: 390 ] وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال : إن شرب أحدكم تسعة أقداح فلم يسكر فهو حلال ، وإن شرب العاشر فسكر فهو حرام . فهذا ما عاضد السنة من آثار الصحابة ، وإن كان عندهم كثيرا . فأما ما استدلوا به من المعاني فمن وجوه ، منها : أن اسم الخمر لا ينطلق على ما عداه من الأنبذة : لأمرين لغة وشرعا : أحدهما : اختصاص كل واحد باسم ينتفي عن الآخر ، فيقال لعصير العنب : خمر ، وليس بنبيذ . ويقال لغيره من الأشربة : نبيذ ، وليس بخمر . وقد قال أبو الأسود الدؤلي في شعره :

                                                                                                                                            دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مجزيا لمكانها     فإن لم يكنها أو تكنه فإنه
                                                                                                                                            أخوها غذته أمه بلبانها

                                                                                                                                            فأخبر أن النبيذ غير الخمر ، وهو من فصحاء العرب المحتج بقوله في اللغة . والثاني : أنه لما انتفى حكم الخمر في النبيذ من تكفير مستحله وتفسيق شاربه ، انتفى عنه اسم الخمر : لأن ما علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الاسم ، كما أن الحكم إذا علق بعلة لم يزل مع وجود العلة . ومنها : أن تحريم الأنبذة ما يعم به البلوى ، وما عم به البلوى وجب أن يكون ثباته عاما ، وما لم يكن ثباته كان نقله متواترا ، وليس فيه تواتر ، فلم يثبت به التحريم . ومنها : أن جميع الأشربة قد كانت حلالا ، وتحريمها نسخ ، والنسخ لا يثبت إلا بالنص ، والنص مختص بالخمر دون النبيذ ، فدل على تحريم الخمر وإباحة النبيذ . ومنها : أن النبيذ بالمدينة عام والخمر فيها نادر : لأن النبيذ يعمل من ثمارها ، والخمر يجلب إليها من الشام والطائف ، وقد روي عن ابن عمر أنه قال : حرمت الخمر وليس بالمدينة منها شيء . فلو استويا في التحريم ، لكان أهل المدينة إلى بيان تحريم النبيذ نصا أحوج منهم إلى بيان تحريم الخمر ، فلما عدل بالنص عن النبيذ إلى الخمر دل على اختصاصها بالتحريم دون النبيذ . ومنها أن الله تعالى : ما حرم شيئا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه ، فإنه حرم الزنا وأباح النكاح ، وحرم لحم الخنزير وأباح لحم الجمل ، وحرم الحرير وأباح القطن والكتان ، وحرم الغارة وأباح الغنيمة ، وحرم التعدي والغلبة وأباح الجهاد ، وقد حرم [ ص: 391 ] الله الخمر فوجب أن يغني عنها بمباح من جنسها . وليس من جنسها ما يغني عنها سوى النبيذ ، فوجب أن يكون مباحا اعتبارا بسائر المحرمات . ومنها أن الله تعالى : قد وعدنا بالخمر في الجنة ورغب فيها أهل الطاعة ، وما لا تعرف لذته لا يتوجه إليه الترغيب فيه ، فاقتضى أن يستبيحوا ما تستدل به على لذتها ، وليس ذلك في غير النبيذ ، فاقتضى أن يحل له النبيذ اعتبارا بسائر الترغيبات ، فهذه دلائل من أباح النبيذ من نصوص ومعان .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية