الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ومن رجع بعد تمام الشهادة لم يحد غيره . وإن لم تتم شهود الزنا أربعة ، فهم قذفة يحدون " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : هاتان مسألتان ، والأولى فيهما تقديم للثانية : لأنها أصل للأولى . وهو أن يشهد بالزنا أقل من أربعة ، إما أن يكونوا ثلاثة ، أو اثنين ، أو واحدا ، الحكم فيهم سواء ، وسواء حضر الرابع فتوقف أو لم يحضر ، فهل يصير الشهود إذا لم يكمل عددهم قذفة يحدون أم لا ؟ على قولين : [ ص: 231 ] أحدهما : - وهو الأظهر المنصوص عليه في أكثر كتبه من قديم وجديد وهو قول أبي حنيفة - أنهم قد صاروا قذفة يحدون .

                                                                                                                                            والقول الثاني : مخرج من كلام علقه في كتاب الشهادات : أنه لا حد عليهم ، ويكونوا على عدالتهم ، ولا يصيروا قذفة بنقصان عددهم ، فإذا قيل بالأول : أنهم قد صاروا قذفة يحدون . فدليله : قصة المغيرة بن شعبة ، وكان أميرا على البصرة من قبل عمر ، وكان منكاحا ، فخلا بامرأة في دار كان ينزلها وينزل معه فيها أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد ، ونفيع ، وزياد بن أمية ، وكان جميعهم من ثقيف ، فهبت ريح فتحت الباب عن المغيرة ، فرأوه على بطن المرأة يفعل بها ما يفعل الزوج بزوجته ، فلما أصبحوا تقدم المغيرة في المسجد ليصلي فقال له أبو بكرة : تنح عن مصلانا . وانتشرت القصة ، فبلغت عمر ، فكتبوا وكتب أن يرفعوا جميعا إليه ، فلما قدموا عليه حضروا مجلسه ، بدأ أبو بكرة فشهد بالزنا ووصفه ، فقال علي للمغيرة : ذهب ربعك . ثم شهد بعده نافع ، فقال علي للمغيرة : ذهب نصفك . ثم شهد بعده شبل بن معبد ، فقال علي للمغيرة : ذهب ثلاثة أرباعك . وقال عمر : أود الأربعة . وأقبل زياد ليشهد ، فقال له عمر : إيها يا سرح العقاب ، قل ما عندك أو أرجو أن لا يفضح الله على يديك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتنبه زياد فقال : رأيت أرجلا مختلفة ، وأنفاسا عالية ، ورأيته على بطنها ، وأن رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار ، ولا أعلم ما وراء ذلك . فقال عمر : الله أكبر ، يا أخي قم فاجلد هؤلاء الثلاثة ، فجلدوا جلد القذف ، وقال عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك . فقال : والله لا أتوب ، والله لقد زنا ، والله لقد زنا . فهم عمر بجلده ، فقال علي : إن جلدته ، رجمت صاحبكما . وفي هذا القول منه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : إن كان هذا القول منه غير الأول ، فقد كملت الشهادة فارجم صاحبك ، وإن كان هو الأول فقد جلد فيه .

                                                                                                                                            والثاني : معناه أنك إن جلدته بغير استحقاق فارجم صاحبك بغير استحقاق ، ولم يخالف في هذه القصة أحد من الصحابة ، فصارت إجماعا . فاعترض طاعن على هذه القصة من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : إن قال : لما عرض عمر لزياد أن لا يستوفي شهادته ، وفيها إسقاط لحق الله تعالى وإضاعة لحدوده .

                                                                                                                                            والجواب عنه : أن عمر رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعريض بما يدرأ به الحدود ، فإنه عرض لماعز حين أقر عنده بالزنا فقال : " لعلك قبلت ، لعلك لامست " ليرجع عن إقراره ، كذلك فعل عمر في تعريضه للشاهد أن لا يستكمل الشهادة : لأن جنب المؤمن حمى .

                                                                                                                                            [ ص: 232 ] والاعتراض الثاني : قال : لم عرض عمر بما أسقط به الحد عن المغيرة ، وهو واحد وأوجب به الحد على الشهود وهم ثلاثة ؟ فقيل : عنه ثلاثة أجوبة :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لما تردد الأمر بين قتل وجلد ، كان إسقاط القتل بالجلد أولى من إسقاط الجلد بالقتل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما خالف الشهود ما ندبوا إليه من ستر العورات ، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلا سترته بثوبك يا هزال " كانوا بالتغليظ أحق من غيرهم .

                                                                                                                                            والثالث : أن رجم المغيرة لم يجب إلا أن تتم شهادتهم ، وجلدهم قد وجب ما لم تتم شهادتهم ، فكان إسقاط ما لم يجب أولى من إسقاط ما وجب .

                                                                                                                                            الاعتراض الثالث : إن قالوا : إن الصحابة عدول ، وهذه الصفة لا تخلو من جرح بعضهم وفسقه : لأنهم إن صدقوا في الشهادة فالمغيرة زان ، والزنا فسق ، وإن كذبوا فهم قذفة ، والقذف فسق . قيل : هذه الصفة لا تمنع من عدالة جميعهم ، والخلاص من قدح يعود على بعضهم ، أما المغيرة وهو المشهود عليه فقد قيل : إنه نكحها سرا فلم يذكروه لعمر : لأنه كان لا يرى نكاح السر ويحد فيه ، وكان يتبسم عند الشهادة عليه ، فقيل له في ذلك فقال : لأن أعجب مما أريد أن أفعله بعد كمال شهادتهم . فقيل : وما تفعل ؟ قال : أقيم البينة أنها زوجتي .

                                                                                                                                            وأما الشهود فلأنهم شهدوا بظاهر ما شاهدوا ، فسلم جماعتهم من جرح وتفسيق ، ولذلك أجمع المسلمون على قبول أخبارهم في الدين ، وأثبتوا أحاديثهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أبو بكرة إذا أتي بكتاب لم يشهد فيه ، وقال : إن القوم فسقوني . وكان هذا القول منه ثقة بنفسه ، فدلت هذه القصة من عمر رضي الله عنه على وجوب الحد على الشهود إذا لم يكمل عددهم ، ويدل عليه من طريق المعنى شيئان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الشهادة بالزنا أغلظ من لفظ القذف بالزنا ، لأنه يقول في القذف : زنيت . ولا يصف الزنا ، ويقول في الشهادة : أشهد أنك زنيت ويصف الزنا ، والقذف لا يوجب حد المقذوف ، والشهادة توجب حد المشهود عليه ، ولما كانت الشهادة أغلظ من القذف من هذين الوجهين كانت بوجوب الحد إذا لم تتم أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أن سقوط الحد عنهم ذريعة إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أن يخرجوه مخرج الشهادة حتى لا يحدوا ، وفي حدهم صيانة الأعراض عن توقي القذف فكان أولى وأحق . وإن قيل بالقول الثاني أنهم على عدالتهم لا يحدون ، فدليله : قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 14 ] ففرق بين القذفة والشهود ، فدل على افتراقهم في الحدود ، ولأن القذف معرة ، والشهادة إقامة حق ، ولذلك إذا أكثر القذفة حدوا ، ولو كثر الشهود لم يحدوا ، فاقتضى ذلك وقوع الفرق بينهم إذا قلوا ، كما وقع الفرق بينهم إذا كثروا ، ولأن حكم كل [ ص: 233 ] واحد من الشهود في الجرح والتعديل معتبر بنفسه لا بغيره ، فلم يجز أن يكون تأخير غيره عن الشهادة موجبا لفسقه ، ولأن حد الشهود - إذا لم يكملوا - مفض إلى كتم الشهادة : خوفا أن يحدوا إن لم يكملوا ، فتكتم حقوق الله تعالى ولا تؤدى ، وقد قال تعالى : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] ، فهذا توجيه القولين فيهم إذا نقص عددهم ، وكملت في العدالة أوصافهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية