الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السادس عشر في إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الأرضة أكلت الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي وأبو نعيم من طريق موسى بن عقبة عن الزهري ، وابن سعد عن شيخ من قريش ، وابن سعد عن ابن عباس ، وعاصم بن عمر بن قتادة وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، دخل حديث بعضهم في بعض ، وابن سعد عن عكرمة ومحمد بن علي ، وابن عساكر عن الزبير بن بكار ، وأبو نعيم عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، أن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، حين هاجر المسلمون إلى النجاشي وبلغهم كرمه إياهم ، وأجمعت قريش أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب ، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أرادوا قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم ، فلما عرفت قريش أن القوم منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ، ولا يدخلوا بيوتهم ، حتى يسلموا [ ص: 59 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل وكتبوا صحيفة وعهودا ومواثيق ، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا حتى يسلموه للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء والجهد ، وفي لفظ : فحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من تنبؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصي ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم ، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم ، وأجمعوا أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه وبعث الله تعالى على صحيفتهم الأرضة فأكلت كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، وكانت معلقة في سقف البيت ، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : فأكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقي ما فيها من ذكر الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : فأرسل الله تعالى على الصحيفة دابة فأكلت كل شيء فيها إلا اسم الله .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : إلا باسمك اللهم ، وأطلع الله تعالى نبيه على الذي صنع بصحيفتهم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ : ثم أطلع الله تعالى رسوله على أمر صحيفتهم ، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم وبغي ، وبقي ما كان فيها من ذكر الله تعالى ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب ، فقال أبو طالب : لا والثواقب ، ما كذبني فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد ، وهو حافل من قريش فلما رأوهم عامرين بجماعتهم أنكروا ذلك ، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ، فأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم أبو طالب ، فقال : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعا إليهم ، فوضعوها بينهم فقال أبو طالب : إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف ، أن ابن أخي قد أخبرني أن الله تعالى برئ من هذه الصحيفة التي في أيديكم ، ومحا منها كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم ، وقطيعتكم إيانا ، وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان ما قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فو الله ، لا يسلم أبدا حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان باطلا رفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم ، قالوا : قد رضينا بالذي تقول ، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها ، فلما رأتها قريش كالذي قال ، قالوا : والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم! فقال : أولئك النفر : إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر ، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم ، وهي بأيديكم طمس الله تعالى ما كان فيه . [ ص: 60 ]

                                                                                                                                                                                                                              من اسم له وما كان من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم ؟ فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف ومن قصي : نحن براء من هذه الصحيفة ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعاشوا ، وخالطوا الناس ، وقال أبو طالب في الصحيفة :


                                                                                                                                                                                                                              ألم يأتكم أن الصحيفة مزقت وأن كل ما لم يرضه الله يفسد

                                                                                                                                                                                                                              كان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري ، فشلت يده حتى يبست فما كان ينتفع بها ، فكانت قريش تقول بينها : إن الذي صنعنا إلى بني هاشم لظلم ، انظروا ما أصاب منصور بن عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية