الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[تولية محمد ابن شيبان القضاء وصورة العهد]

وفي سنة ثلاث وستين: قلد المطيع القضاء أبا الحسن محمد ابن أم شيبان الهاشمي بعد تمنع، وشرط لنفسه شروطا منها: ألا يرتزق على القضاء، ولا يخلع عليه، ولا يشفع إليه فيما يخالف الشرع، وقرر لكاتبه في كل شهر ثلاثمائة درهم، ولحاجبه مائة وخمسين، وللعارض على بابه مائة، ولخازن ديوان الحكم وللأعوان ستمائة، وكتب له عهد صورته:

(هذا ما عهد عبد الله الفضل المطيع لله أمير المؤمنين إلى محمد بن صالح الهاشمي، حين دعاه إلى ما يتولاه من القضاء بين أهل مدينة السلام مدينة المنصور، والمدينة الشرقية من الجانب الشرقي والجانب الغربي، والكوفة، وشقي الفرات، وواسط، وكوخي، وطريق الفرات، ودجلة، وطريق خراسان، وحلوان وقرميسين، وديار مضر، وديار ربيعة، وديار بكر، والموصل، والحرمين، واليمن، ودمشق، وحمص، وجند قنسرين، والعواصم، ومصر، والإسكندرية، وجند فلسطين، والأردن، وأعمال ذلك كلها، وما يجري من ذلك من الإشراف على من يختاره لنقابة من العباسيين بالكوفة، وشقي الفرات وأعمال ذلك.

وما قلده إياه من قضاء القضاة، وتصفح أحوال الحكام، والاستشراف على ما يجري عليه أمر الأحكام في سائر النواحي والأمصار التي تشتمل عليه [ ص: 623 ] المملكة، وتنتهي إليها الدعوة، وإقرار من يحمد هديه وطريقته، والاستبدال بمن يذم سمته وسجيته; احتياطا للخاصة والعامة، وحنوا على الملة والذمة، عن علم بأنه المقدم في بيته وشرفه، المبرز في عفافه، المزكى في دينه وأمانته، الموصوف في ورعه ونزاهته، المشار إليه بالعلم والحجى، المجتمع عليه في الحلم والنهى، البعيد من الأدناس، اللباس من التقى أجمل لباس، النقي الجيب، المخبور بصفاء الغيب، العالم بمصالح الدنيا، العارف بما يفيد سلامة العقبى.

آمره بتقوى الله; فإنها الجنة الواقية، وليجعل كتاب الله في كل ما يعمل فيه رويته، ويرتب عليه حكمه وقضيته، إمامه الذي يفزع إليه، وعماده الذي يعتمد عليه، وأن يتخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منارا يقصده، ومثالا يتبعه، وأن يراعي الإجماع، وأن يقتدي بالأئمة الراشدين، وأن يعمل اجتهاده فيما لا يوجد فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع.

وأن يحضر مجلسه من يستظهر بعلمه ورأيه، وأن يسوي بين الخصمين إذا تقدما إليه في لحظه ولفظه، ويوفي كلا منهما من إنصافه وعدله، حتى يأمن الضعيف حيفه، وييأس القوي من ميله.

وأمره أن يشرف على أعوانه وأصحابه، ومن يعتمد عليه من أمنائه وأسبابه، إشرافا يمنع من التخطي إلى السيرة المحظورة، ويدفع عن الإشفاق إلى المكاسب المحجورة...) وذكر من هذا الجنس كلاما طويلا.

قلت: كان الخلفاء يولون القاضي المقيم ببلدهم القضاء بجميع الأقاليم والبلاد التي تحت ملكهم، ثم يستنيب القاضي من تحت أمره من شاء في كل إقليم وفي كل بلد; ولهذا كان يلقب قاضي القضاة، ولا يلقب به إلا من هو بهذه الصفة، ومن عداه بالقاضي فقط، أو قاضي بلد كذا.

وأما الآن... فصار في البلد الواحد أربعة مشتركون; كل منهم يلقب قاضي القضاة، ولعل آحاد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد [ ص: 624 ] من قضاة القضاة الآن، ولقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حكما من سلاطين هذا الزمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية