الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[غدر خوارزم شاه بالتجار ثم موته]

وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرهت نفسه إلى أموال التجار، وكاتب السلطان يقول: إن هؤلاء القوم قد جاؤوا بزي التجار، وما قصدهم إلا التجسس، فإن أذنت لي فيهم؟

فأذن له بالاحتياط عليهم، فقبض عليهم، وأخذ أموالهم، فوردت رسل جنكز خان إلى خوارزم شاه تقول: إنك أعطيت أمانك للتجار فغدرت، والغدر قبيح، وهو من سلطان الإسلام أقبح; فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك.. فسلمه إلينا، وإلا... سوف تشاهد مني ما تعرفني به، فحصل عند [ ص: 714 ] خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله، فتجلد، وأمر بقتل الرسل فقتلوا.

فيا لها من حركة! لما هدرت من دماء الإسلام أجرت بكل نقطة سيلا من الدم!

ثم سار جنكز خان إليه، فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور، ثم ساق إلى مرج همذان رعبا من التتار، فأحدق به العدو، فقتلوا كل من معه، ونجا هو بنفسه، فخاض الماء إلى جزيرة، ولحقته علة ذات الجنب، فمات بها وحيدا فريدا، وكفن في شاش فراش كان معه، وذلك في سنة سبع عشرة، وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه.

قال سبط الجوزي : (كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة، فأخذوا بخارى وسمرقند وقتلوا أهلها، وحاصروا خوارزم شاه، ثم بعد ذلك عبروا النهر، وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان، فلم تجد التتار أحدا في وجوههم، فطووا في البلاد قتلا وسبيا، وساقوا إلى أن وصلوا إلى همذان وقزوين في هذه السنة).

وقال ابن الأثير في «كامله» : (حادثة التتار من الحوادث العظمى، والمصائب الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلقه الله تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها... لكان صادقا; فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها.

ومن أعظم ما يذكرون: فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام؟! وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟!

فهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب، استدبرته الريح; فإن قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان، مثل كاشغر وبلاد شاغرق، ثم منها إلى بخارى وسمرقند، فيملكونها [ ص: 715 ] ويبيدون أهلها، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا وإبادة، وإلى الري وهمذان إلى حد العراق، ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها، ويخربونها ويستبيحونها في أقل من سنة... أمر لم يسمع بمثله!!

ثم ساروا من أذربيجان إلى دربند شروان فملكوا مدنه، وعبروا من عندها إلى بلد اللان واللكز، فقتلوا وأسروا، ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا من وقف، وهرب الباقون، واستولى التتار عليها.

ومضت طائفة أخرى غير هؤلاء إلى غزنة وأعمالها، وسجستان وكرمان، ففعلوا مثل هؤلاء، بل أشد.

هذا ما لم يطرق الأسماع مثله; فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، وإنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا، إنما رضي بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه.

ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة ومددهم يأتيهم; فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل يأكلون لحومها، لا غير.

وأما خيلهم... فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات ولا تعرف الشعير.

وأما ديانتهم.. فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون جميع الدواب وبني آدم، ولا يعرفون نكاحا، بل المرأة يأتيها غير واحد).

التالي السابق


الخدمات العلمية