الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 739 ] خلافة الواثق بالله إبراهيم

[740 - 741 هـ]

ابن ولي العهد المستمسك بالله أبي عبد الله محمد بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد .

كان جده الحاكم عهد إلى ابنه محمد، ولقبه: المستمسك، فمات في حياته، فعهد إلى ابنه إبراهيم هذا؛ ظنا أنه يصلح للخلافة، فرآه غير صالح لها; لما هو فيه من الانهماك في اللعب ومعاشرة الأراذل، فعدل عنه وعهد إلى المستكفي ابنه -أعني: ابن الحاكم- وهو عم إبراهيم، فكان إبراهيم هو السبب في الوقيعة بين الخليفة المستكفي والسلطان بعد أن كانا كالأخوين؛ لما كان يحمله إليه من النميمة به، حتى جرى ما جرى.

فلما مات المستكفي بقوص... عهد إلى ابنه أحمد، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك، وبايع إبراهيم هذا، ولقب: بالواثق، إلى أن حضرت السلطان الوفاة، فندم على ما صدر منه، وعزل إبراهيم هذا، وبايع ولي العهد أحمد، ولقب: الحاكم، وذلك في أول المحرم سنة اثنتين وأربعين.

قال ابن حجر : (راجع الناس السلطان في أمر إبراهيم هذا، ووسموه بسوء السيرة، فلم يلتفت إلى ذلك، ولم يزل بالناس حتى بايعوه، وكان العامة يلقبونه: المستعطي بالله).

وقال ابن فضل الله في «المسالك» في ترجمة الواثق: (عهد إليه جده ظنا أن يكون صالحا، أو يجيب لداعي الخلافة صائحا، فما نشأ إلا في تهتك، ولا دان إلا بعدم تنسك، أغوي بالقاذورات، وفعل ما لم تدع إليه الضرورات، وعاشر [ ص: 740 ] السفلة والأراذل، وهان عليه من عرضه ما هو باذل، وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وعمي عليه فلم ير مسيئا إلا محسنا، وغوي اللعب بالحمام، ومشترى الكباش للنطاح، والديوك للنقار، والمنافسة في المعز الزرائبية الطوال الآذان، وأشياء من هذا، ومثله ما يسقط المروءة ويثلم الوقار، هذا إلى سوء معاملة، ومشترى سلع لا يوفي أثمانها، واستئجار آدار لا يقوم بأجرها، وتحيل على درهم يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم منه ويطعم حرمه، حتى كان عرضه عرضة للهوان، وأكلة لأهل الأوان.

فلما توفي المستكفي والسلطان عليه في حدة غضبه، وتياره المتحامل عليه في شدة غلبه... طلب هذا الواثق المغتر والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكايده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه وأحضر معه عهد جده، فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم نقض ذلك العهد، ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمر بن جماعة في صرف رأي السلطان عن إقامة الخطبة باسم الواثق فلم يفعل، فاتفق الرأيان على ترك الخطبة للاثنين، واكتفي فيها بمجرد ذكر اسم السلطان، فترجل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر; كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب; كأنه ما قرع بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس، وشعارها عليه لباس الحداد، وغمروا تلك السيوف الحداد.

ثم لم يزل الأمر على هذا حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به: رد الأمر إلى أهله، وأمضى عهد المستكفي لابنه، وقال: الآن حصحص الحق، وحنا على مخالفيه ورق، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى رعي الهمم، وستر اللؤم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق، وأين هو من صاحب هذا الاسم الذي طالما سرى رعبه [ ص: 741 ] في القلوب، وأمنت هيبته العيوب؟! وهيهات لا تعد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل!! وإنما سوء الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، وقد عاد الآن يعض يديه، ومن يهن... يسهل الهوان عليه). هذا آخر كلام ابن فضل الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية