الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[استيلاء الفرنج على بيت المقدس]

وفيها: أخذت الفرنج بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف، وقتلوا به أكثر من سبعين ألفا، منهم جماعة من العلماء والعباد والزهاد، وهدموا المشاهد، [ ص: 657 ] وجمعوا اليهود في الكنيسة، وأحرقوها عليهم، وورد المستنفرون إلى بغداد، فأوردوا كلاما أبكى العيون، واختلفت السلاطين، فتمكنت الفرنج من الشام، وللأبيوردي في ذلك:


مزجنا دماء بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراجم     وشر سلاح المرء دمع يفيضه
إذا الحرب شبت نارها بالصوارم     فإيها بني الإسلام إن وراءكم
وقائع يلحقن الردى بالمناسم     أتهويمة في ظل أمن وغبطة
وعيش كنوار الخميلة ناعم     وكيف تنام العين ملء جفونها
على هبوات أيقظت كل نائم     وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم     تسومهم الروم الهوان وأنتم
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم     فكم من دماء قد أبيحت ومن دمى
تواري حياء حسنها بالمعاصم     بحيث السيوف البيض محمرة الظبا
وسمر العوالي داميات اللهازم     يكاد لهن المستجن بطيبة
ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم     أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى
رماحهم والدين واهي الدعائم     ويجتنبون النار خوفا من الردى
ولا يحسبون العار ضربة لازم     أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
وتغضي على ذل كماة الأعاجم     فليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم



وفيها: خرج محمد بن ملكشاه على أخيه السلطان بركياروق، فانتصر [ ص: 658 ] عليه، فقلده الخليفة; ولقب: غياث الدنيا والدين، وخطب له ببغداد، ثم جرت بينهما عدة وقعات.

وفيها: نقل المصحف العثماني من طبرية إلى دمشق ; خوفا عليه، وخرج الناس لتلقيه، فآووه في خزانة بمقصورة الجامع.

وفي سنة أربع وتسعين: كثر أمر الباطنية بالعراق، وقتلهم الناس، واشتد الخطب بهم حتى كانت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وقتلوا خلائق، منهم: الروياني صاحب «البحر».

وفيها: أخذ الفرنج بلد سروج، وحيفا، وأرسوف، وقيسارية.

وفي سنة خمس وتسعين: مات المستعلي صاحب مصر، وأقيم بعده ابنه الآمر بأحكام الله منصور; طفل له خمس سنين.

وفي سنة ست وتسعين: جرت فتن للسلطان، فترك الخطباء الدعوة للسلطان، واقتصروا على الدعوة للخليفة لا غير.

وفي سنة سبع وتسعين: وقع الصلح بين السلطانين: محمد وبركياروق; وسببه: أن الحروب لما تطاولت بينهما وعم الفساد، وصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والسلطنة مطموعا فيها، وأصبح الملوك [ ص: 659 ] مقهورين بعد أن كانوا قاهرين... دخل العقلاء بينهما في الصلح، وكتبت بينهم العهود والأيمان والمواثيق، وأرسل الخليفة خلع السلطنة إلى بركياروق، وأقيمت له الخطبة ببغداد .

وفي سنة ثمان وتسعين: مات السلطان بركياروق، فأقام الأمراء بعده ولده جلال الدولة ملكشاه ، وقلده الخليفة، وخطب له ببغداد، وله دون خمس سنين، فخرج عمه محمد، واجتمعت الكلمة عليه، فقلده الخليفة، وعاد إلى أصبهان سلطانا متمكنا مهيبا كثير الجيوش.

وفيها: كان ببغداد جدري مفرط، مات فيه خلق من الصبيان لا يحصون، وتبعه وباء عظيم.

وفي سنة تسع وتسعين: ظهر رجل بنواحي نهاوند فادعى النبوة وتبعه خلق، فأخذ وقتل.

وفي سنة خمسمائة: أخذت قلعة أصبهان التي ملكها الباطنية وهدمت وقتلوا، وسلخ كبيرهم وحشي جلده تبنا، فعل ذلك السلطان محمد بعد حصار شديد، فلله الحمد.

وفي سنة إحدى وخمسمائة: رفع السلطان الضرائب والمكوس ببغداد، [ ص: 660 ] وكثر الدعاء له، وزاد في العدل وحسن السيرة.

وفي سنة اثنتين: عادت الباطنية، فدخلوا شيزر على حين غفلة من أهلها، فملكوها وملكوا القلعة، وأغلقوا الأبواب، وكان صاحبها خرج يتنزه، فعاد وأبادهم في الحال، وقتل فيها شيخ الشافعية الروياني صاحب «البحر»، قتله الباطنية في بغداد ; كما تقدم.

وفي سنة ثلاث: أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سنين.

وفي سنة أربع: عظم بلاء المسلمين بالفرنج، وتيقنوا استيلاءهم على أكثر الشام، وطلب المسلمون الهدنة، فامتنعت الفرنج، وصالحوهم بألوف دنانير كثيرة، فهادنوا ثم غدروا، لعنهم الله.

وفيها: هبت بمصر ريح سوداء مظلمة، أخذت بالأنفاس، حتى لا يبصر الرجل يده، ونزل على الناس رمل، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلا، وعاد إلى الصفرة، وكان ذلك من العصر إلى بعد المغرب.

وفيها: كانت ملحمة كبيرة بين الفرنج وبين ابن تاشفين صاحب الأندلس، نصر فيها المسلمون، وقتلوا وأسروا وغنموا ما لا يعبر عنه، وبادت شجعان الفرنج.

[ ص: 661 ] وفي سنة سبع: جاء مودود صاحب الموصل بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس، فوقع بينهم معركة هائلة، ثم رجع مودود إلى دمشق، فصلى الجمعة يوما في الجامع; وإذا بباطني وثب عليه فجرحه فمات من يومه، فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتابا فيه: (وإن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها... لحقيق على الله أن يبيدها).

وفي سنة إحدى عشرة: جاء سيل عرم، غرق سنجار وسورها، وهلك خلق كثير، حتى إن السيل أخذ باب المدينة فذهب به عدة فراسخ واختفى تحت التراب الذي جره السيل، وظهر بعد سنين، وسلم طفل في سرير له حمله السيل فتعلق السرير بزيتونة وعاش وكبر.

وفيها: مات السلطان محمد، وأقيم بعده محمود، وله أربع عشرة سنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية