الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث: حكم الوصية إذا لم يوص بها الميت

        اتفق الفقهاء القائلون بوجوب الوصية، والقائلون بعدم وجوبها على أن الوصية تفوت بالموت، واختلفوا في وجوب إخراج شيء من التركة لقرابته الذين لا يرثون على قولين:

        القول الأول: أن الإنسان إذا مات ولم يوص لا يلزم أن يخرجوا من تركته شيئا يعملونه لقرابته، ولا لغيرهم، ويستحب لهم التصدق عنه بشيء.

        وهو قول جمهور العلماء.

        القول الثاني: أن من مات ولم يوص لقرابته ففرض على ورثته أن يتصدقوا عنه بشيء، وأن يعطوا لقرابته الذين لا يرثونه شيئا مما تطيب به أنفس الورثة أو الوصي.

        وبه قال ابن حزم .

        الأدلة:

        أدلة الجمهور:

        1 - قوله تعالى في آيتي الميراث: من بعد وصية يوصين بها ، [ ص: 166 ] من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار من بعد وصية توصون بها أو دين

        فهذه أربعة نصوص من القرآن تشترط في تنفيذ الوصية، وإخراجها من التركة: وجودها ووقوع الإيصاء بها من الميت، فالله عز وجل أسند الفعل في جميع ذلك إلى الهالك، وأضاف الوصية إليه، وجعلها من فعله، فدل بمفهومه على أن الوصية التي لا يوصي بها الميت في حياته لا تخرج من التركة بعد وفاته ولا تنفذ; لأنها معدومة، وغير موجودة، والمأمور بتنفيذه ما كان موجودا.

        2 - قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وجه الدلالة من وجوه:

        الأول: أن المراد بالوصية هنا هو الإيصاء بالفعل (لا بالقوة) أي: إنشاء الوصية وإيقاعها; لأن معنى كتبها: فرضها وأوجبها، ولا تكليف إلا بفعل كما سبق، ولما كتب الله هذا الإيصاء علم أنه لا تكون وصية بدون إيصاء، كما دلت على ذلك آيتا المواريث حسبما سبق.

        الثاني: أنه لو كانت الوصية تنفذ من غير إيصاء لها لما أمر بها المحتضرين، كما لم يأمرهم بتوريث ورثتهم، ولم يقل لهم: كتب عليكم توريث أولادكم، فتغيير الأسلوب بين آيتي الفرائض والوصية دليل على أن [ ص: 167 ] الإرث حق للوارث بغير إرادة المورث، ولا وصيته به، وأن الوصية حق للموصى له، يتوقف على إيصاء الميت له به.

        الوجه الثالث: قوله تعالى: فمن بدله بعدما سمعه فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن هناك إيصاء ووصية تكلم بها الموصي، وسمعها منه الشهود.

        الوجه الرابع: قوله تعالى: فمن خاف من موص فإنه يقتضي وجود إيصاء بالفعل; للقاعدة الأصولية: أن اسم الفاعل حقيقة في الحال، أي: حال التلبس بالفعل والاتصاف.

        فالآية كما تتحدث عن وصية فعلية موجودة، أوصى بها الموصي في حياته قبل موته توجب تنفيذها، وتحرم تبديلها، وإذا لم تكن وصية، فلا تنفيذ ولا تبديل، ولا جنف ولا إثم.

        قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت

        وجه الدلالة: أنه سبحانه أمر بالإشهاد على الوصية ليقع التأكد منها، والشهادة لا تكون إلا على موجود، ولا تكون على معدوم، كما أمر بتحليف الشهود للتأكد من صدقهم، وبما يشهدون به من الوصية، واليمين لا تكون إلا على واقع محقق.

        4 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن [ ص: 168 ] الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: "يقضي الله في ذلك" فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك" .

        وجه الدلالة من وجهين:

        الأول: أن العم أخذ جميع التركة، ولم يدع شيئا للبنتين قبل نزول آية الميراث، ولم يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج شيء من تركة سعد ، وإعطائه لقرابته، فدل ذلك على أنه لا تنفذ الوصية إلا إذا أوصى بها الميت.

        الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الميراث أمره بإعطاء البنتين الثلثين والأم الثمن، وأخذ الباقي لنفسه، ولم يأمره بإخراج سهم الوصية، فدل ذلك على عدم وجوبه وإلا لذكره; لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.

        (61) 5 - ما رواه الطبري من طريق أسباط ، عن السدي ، قوله: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة له يقال لها: أم كجة ، وترك خمس جوار، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك

        وجه الدلالة: وهو أنه لم يأمر ابني العم بإخراج سهم الوصية قبل نزول [ ص: 169 ] الفرائض، ولم يأمر بها بعد نزول الفرائض، ولو كانت واجبة الإخراج لأمر بإخراجها; لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة، وللعلم بأن الوصية كانت قد شرعت قبل ذلك.

        (62) 6 - ما رواه ابن ماجه من طريق درست بن زياد ، ثنا يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المحروم من حرم وصيته" .

        [ ص: 170 ] وجه الدلالة: أنه ظاهر في فواتها بالموت، ولا تنفذ بعده بدون إيصاء منه; لأنها لو كانت تنفذ وإن لم يوص بها لما كان تاركها محروما; لإمكان استدراكها بعد موته، بإخراجها عنه كقضاء دينه، فلا يكون محروما بتركها، وهو خلاف نص الحديث.

        (63) 7 - ما رواه أحمد من طريق عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج ، يحدث: أن جده، حين مات ترك جارية، وناضحا، وغلاما حجاما، وأرضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجارية، فنهى عن كسبها - قال شعبة : مخافة أن تبغي - وقال: "ما أصاب الحجام فاعلفوه الناضح". وقال في الأرض: "ازرعها أو ذرها" .

        [ ص: 171 ] فهذه تركة ميت بكاملها تركها الرسول صلى الله عليه وسلم لورثته، وأرشدهم على طرق استغلالها، ولم يأمرهم بإخراج جزء منها وصية، ولو كان إخراج بعض التركة واجبا لأمرهم به وبينه لهم; لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.

        (64) 8 - ما رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة ، أخبرنا عبد الملك أبو جعفر ، عن أبي نضرة ، عن سعد بن الأطول أن أخاه مات، وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالا، فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك محبوس بدينه، فاقض عنه"، فقال: يا رسول الله، فقد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليس لها بينة، قال: "فأعطها فإنها محقة" .

        [ ص: 172 ] وجه الدلالة من وجهين:

        الأول: أن سعدا رضي الله عنه قرر إنفاق التركة كلها على العيال، ولم يخرج منها وصية، مما يدل على أنه لم يكن معروفا عندهم إخراج الوصية عن الموصي بدون إيصاء، فإنه لو كان ذلك معروفا لبادر بإخراجها; لما عرف به الصحابة من المبادرة لأداء الواجبات، وعدم التفريط فيها.

        الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم أمره بإخراج الدين، وأخبره أن أخاه مرتهن بوصيته، وكلاهما مقدم على الإرث وواجبان عند ابن حزم ، فلو كانت الوصية واجبة الإنشاء والتنفيذ، وإن لم يوص بها الموصي لأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراجها، كما أمره بإخراج الدين الذي على أخيه; لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.

        إلا أنه قد يقال: إن الوصية قبل الدين؛ ولذلك أمره بقضاء الدين، ولم يأمره بإخراج الوصية، ولكن الظاهر من السياق أن التركة كانت أكثر من الدين، ألا ترى أنه قضى جميع الدين وبقيت بقية، قضى منها المرأة، ولم يخرج الوصية، ولم يأمره بإخراج الوصية بعد القضاء، فدل ذلك على عدم وجوبها.

        (65) 9 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا" .

        وجه الدلالة: أنه جعل التركة كلها للورثة وحدهم، وعلى سبيل الحصر: "ومن ترك مالا فلورثته" أي: فهو لورثته، كما جاء في رواية مسلم ، أي: لا لغيرهم، فلم يجعل فيها وصية دون إيصاء.

        (66) 10 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن طاوس ، عن أبيه، عن [ ص: 173 ] ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" .

        فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التركة بين الورثة بالفرض والتعصيب، ولم يجعل فيها وصية دون إيصاء.

        11 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" .

        وجه الدلالة: أنه أمر بالوصية والمبادرة بكتابتها؛ خشية مفاجأة الموت، وفوات الفرصة، ولو كانت الوصية لا تحتاج إلى إيصاء، وتنفذ بدونه، لم تكن فائدة في الحث على المبادرة إلى كتابتها إذا كانت تنفذ بإيصاء وبدونه.

        12 - قال ابن حجر في الفتح: "ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ، كذا قال، واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى; لأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية".

        13 - الإجماع على أن الوصية لا تنعقد إلا بإيجاب ممن هو أهل لذلك، وهو منتف في حال موت الموصي بدون إيصاء، والقاعدة: أنه يلزم من انعدام الركن انعدام الحقيقة، وإذا لم تكن وصية فأي شيء يلزم الورثة بتنفيذه؟.

        [ ص: 174 ] أدلة القول الثاني: (وجوب إخراج شيء من التركة):

        1 - قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين

        دلت الآية على وجوب الوصية، فإذا لم يفعل الميت فإنها تؤخذ من ماله لتعلق حق القرابة بها، وزوال ملكه عنها.

        ونوقش الاستدلال بالآية من وجهين:

        الأول: ما سبق توضيحه من عدم دلالة الآية على الوجوب، أو أنها منسوخة عند الجمهور.

        الثاني: أنه لا يلزم من وجوب الوصية وجوب إخراجها دون إيصاء، كما دلت على ذلك أدلة الجمهور.

        ولهذا لم يقل الطبري بوجوب إخراجها، واكتفى بإثم تاركها رغم قوله بوجوبها.

        2 - ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" .

        قال ابن حزم : "هذا إيجاب للصدقة عمن لم يوص، وأمره صلى الله عليه وسلم فرض".

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن السائل هو سعد بن عبادة ، والمسؤول عنها هي أمه كما جاء التصريح بذلك في حديث ابن عباس رضى الله عنهما، ولم يكن لها مال توصي فيه:

        (97) لما رواه مالك في الموطأ قال: حدثني سعيد بن عمرو بن [ ص: 175 ] شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة ، عن أبيه، عن جده أنه قال: خرج سعد بن عبادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فحضرت أمه الوفاة بالمدينة ، فقيل لها: أوصي، فقالت: فيم أوصي؟ إنما المال مال سعد ، فتوفيت قبل أن يقدم سعد ، فلما قدم سعد بن عبادة ، ذكر ذلك له، فقال سعد : يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال سعد : حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سماه" .

        (إسناده صحيح).

        [ ص: 176 ] وإذا لم يكن لها مال فلا تجب الوصية في حياتها، كتابا، وسنة، وإجماعا; لقوله تعالى: إن ترك خيرا الوصية وقوله عليه الصلاة والسلام: "له شيء يوصي فيه" ، وإذا لم تجب عليها في حياتها فكيف يسوغ أن يقال: يجب عليها بعد موتها ما لم يكن واجبا عليها في حياتها؟ وكيف يجوز الاستدلال بالحديث على وجوب إخراج الوصية من مال من لم يوص بها؟.

        الثاني: أن سعدا رضي الله عنه تصدق عن أمه من ماله هو، لا من مالها، على تسليم أن لها مالا توصي فيه.

        (68) لما روى البخاري من طريق عكرمة ، يقول: أنبأنا ابن عباس رضي الله عنه: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: "نعم". قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة .

        [ ص: 177 ] الثالث: أن سعدا رضي الله عنه تصدق عن أمه على اختلاف الروايات، وليس في شيء منها أنه تصدق على أقارب أمه، فلا تبقى فيه حجة على تنفيذ الوصية للقرابة إذا لم يوص لها الميت في حياته.

        الرابع: أن المقصود من سؤال سعد هو: هل يصل أجر الصدقة على أمه؟ وهل تنتفع أمه بصدقة ولدها عنها، وإن لم تكن الصدقة من فعلها؟ وهل له هو أجر في صدقته عنها؟.

        وإذا كان المقصود من السؤال هو ثبوت الأجر للميت، أو عدم ثبوته، كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الجواب: نعم، هو إخبار عن ثبوت الأجر، وحصول النفع للميت بصدقة الحي عنه; للقاعدة الأصولية: جواب السائل غير المستقل تابع للسؤال، وأما الأمر في قوله: (تصدق عنها) فهو للندب، وعلى ذلك حمله العلماء؛ ولذلك ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب ما يستحب لمن مات فجأة أن يتصدقوا عنه"، وهذا هو الموافق للقاعدة الأصولية: أن الأمر بعد الاستئذان لا يدل على الوجوب على الصحيح، ويوضح ذلك أن سعدا سأل هل يتصدق عن أمه؟ فهل كان ينتظر من الرسول أن يقول له: لا، أو ينهاه عن الصدقة عن أمه، حتى يعلم الناس أن الوصية غير واجبة; لأنه لم يأذن فيها لسعد .

        الخامس: ما فعله سعد عن أمه فعله باسم الصدقة، وباسمها كان السؤال والجواب، والوصية غير الصدقة، فلا ينبغي الخلط بينهما، والاستدلال بما ورد في أحدهما على الأخرى، بالإضافة إلى أن الأصل في الصدقة الندب، ولا تحمل على الوجوب إلا بدليل.

        السادس: الحديث وارد فيمن مات فجأة، وابن حزم لا يقول بالقياس، [ ص: 178 ] فلماذا عمم الحكم فيمن مات فجأة، وغيره، مع ما يمكن أن يقال: باختصاص الحكم بمن مات فجأة؛ لعذره بمباغتة الموت له، وعدم إتاحة الفرصة له ليوصي، فتقبل الصدقة عنه وبعد موته، وأما غيره فقد مات مصرا على ترك الوصية، رغم نزول أسباب الموت به، فليس له نية في الخير، ترى إلى قول سعد معتذرا عن أمه، شاهدا لها بحب الخير، ورغبتها في فعله: "إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت" .

        فالقياس يقتضي التفرقة بينهما، والنص ورد في أحدهما، فما كان ينبغي له التعميم في الحكم على خلاف أصله في منع القياس مطلقا، وبالأخص مع وجود الفارق.

        السابع: أن الحديث دليل للجمهور في القول بعدم وجوب الوصية، وحجة على من قال بوجوبها كما سبق; لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ترك أم سعد للوصية حين أخبره بذلك ولدها، ولو كانت واجبة لأنكر تركها.

        الثامن: على تسليم دلالة الحديث على وجوب إخراج الوصية من غير إيصاء فهو معارض بما سبق من أدلة الجمهور، فتقدم عليه لوضوح دلالتها، وكثرة عددها؛ بناء على الصحيح عند الأصوليين من الترجيح بكثرة الرواة وكثرة الأدلة.

        3 - ما رواه مسلم من طريق العلاء ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالا، ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم" .

        قال ابن حزم : "فهذا إيجاب للوصية، ولأن يتصدق عمن لم يوص ولا بد; لأن التكفير لا يكون إلا في ذنب، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك الوصية [ ص: 179 ] يحتاج فاعله إلى أن يكفر عنه ذلك، بأن يتصدق عنه، وهذا لا يسع أحدا خلافه".

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن الحديث حجة للجمهور في عدم وجوبها; لأنه لم ينكر على الميت ترك الوصية حين علم بذلك، كما قيل في حديث عائشة السابق.

        الثاني: السائل في هذا الحديث لم يسأل عن الوصية، وإنما سأل: هل تكفر ذنوب أبيه بصدقته عنه، كما تكفر لو كان أبوه أوصى في حياته؟ كما جاء:

        (69) فيما روى الطبراني من طريق عمرو بن شمر ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، رفعه، قال: "إن الرجل المسلم ليصنع في ثلثه عند موته خيرا، فيوفي الله بذلك زكاته" .

        فالذنوب المسؤول عن تكفيرها هي الذنوب التي تكفرها الوصية، والمذكورة في الحديثين.

        عن هذا سأل الرجل، وهذا ما أراد بقوله: "فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه" ، وعلى هذا حمله العلماء.

        [ ص: 180 ] ولم يقصد أن أباه أذنب بترك الوصية كما فهمه ابن حزم ، وإنما أراد أن أباه فاتته الوصية التي تكفر الذنوب، فهل يمكن استدراك ذلك بعد موته بالصدقة عنه؟.

        وإذا كان هذا هو مقصود السائل كان قوله صلى الله عليه وسلم في الجواب: "نعم" مجرد إخبار بأن صدقته عن أبيه تكفر ما تكفره وصية أبيه.

        الثالث: ليس في هذا الحديث أمر، لا بالوصية ولا بالصدقة، فضلا عن كونه أمر إيجاب، فكيف يصح الاستدلال به على وجوب الوصية، ووجوب إخراجها من التركة بغير إيصاء؟ وليس في الحديث أي صيغة من صيغ الأمر، وإنما هو مجرد إخبار بتكفير الصدقة بعد الموت لما وقع فيه التفريط من قبل الأب من زكوات.

        الرابع: أنه على تقدير أن يكون مقصود السائل هو يكفر عنه ترك الوصية كما فهم ابن حزم ; فإنه لا يدل على وجوبها; لأن التكفير لا يستلزم الذنب، بدليل:

        أن قاتل الخطأ تجب عليه الكفارة بنص القرآن: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ومع ذلك فليس عليه ذنب بنص القرآن أيضا: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به .

        وأيضا الحانث في اليمين تجب عليه الكفارة بنص القرآن: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين ، ومع ذلك لا إثم عليه في حنثه، كما دلت على ذلك السنة النبوية قولا وفعلا.

        (70) لما روى البخاري ومسلم من طريق الحسن قال: حدثني [ ص: 181 ] عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" .

        فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر الحالف بالحنث إذا كان خيرا من البر، ولو كان الحنث ذنبا لما أمره به; لأنه لا يأمر بالإثم والمنكر.

        وإذا كان لا تلازم بين الكفارة والإثم لم يكن في الحديث دلالة على وجوب الوصية، والإثم بتركها.

        الخامس: على تسليم دلالة الحديث على وجوب الوصية، ووجوب إخراجها إذا فرط فيها الميت، فإنه يكون معارضا بما سبق من أدلة الجمهور; فتقدم عليه لوضوح دلالتها وكثرتها.

        (71) 4 - ما رواه سعيد بن منصور قال: حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت ولم توص، أفأوصي عنها؟ قال: نعم" (مرسل).

        (72) 5 - ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق عن امرأة ماتت ولم توص وليدة، وتصدق عنها بمتاع" (مرسل).

        قال ابن حزم : "لا مرسل أصح من هذين فخالفوهما...يعني الجمهور لرأيهم الفاسد" [ ص: 182 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: هو مرسل، وابن حزم لا يقول بحجيته.

        الثاني: هو فعل، وابن حزم يقول: إن فعله صلى الله عليه وسلم محمول على الندب، ولا يدل على الوجوب، فلا يصح احتجاجه بما لا يقول به، إلا أن يدعي أنه بيان للأمر بالوصية في آية البقرة، فيكون للوجوب كما يقوله.

        الثالث: أنه حجة على الظاهرية ومن معهم; لأنه صلى الله عليه وسلم أعتق عن المرأة، وتصدق بمتاع، والوصية الواجبة عندهم هي الوصية للوالدين والأقربين، إذا كان صلى الله عليه وسلم لم يعط قرابة المرأة كان ذلك دليلا على عدم الوجوب; لأنها إذا لم تجب للقرابة لم تجب لغيرهم.

        الرابع: أنها قضية عين، وقضايا العين لا عموم فيها; لأن العموم من صفات الألفاظ، دون الأفعال، فلا عموم لها، كما يقول الأصوليون .

        الخامس: أنه معارض للحديث الصحيح المسند في قسمة تركة سعد بن الربيع وغيره من الأحاديث السابقة، والمسند مقدم على المرسل.

        (73) 6 - ما رواه عبد الرزاق من طريق يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال: "مات عبد الرحمن بن أبي بكر في منام له، فأعتقت عنه عائشة تلادا من تلاده" .

        قال ابن حزم : "فهذا يوضح أن الوصية عندها رضي الله عنها فرض، وأن البر عمن لم يوص فرض; إذ لولا ذلك لما أخرجت من ماله ما لم يأمر بإخراجه".

        [ ص: 183 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الأول: أنه فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على مشروعية الفعل، بقطع النظر عن صفته، فيحمل على الندب جمعا بينه وبين غيره من الأدلة الدالة على عدم الوجوب.

        الثاني: أنه معارض بفعل عائشة رضي الله عنها على عدم وجوب الوصية للأقارب; لأنها لم تعط الأقارب شيئا، وإنما أعتقت رقابا من رقابه.

        فلا يصح الاستدلال بهذا الأثر على ذلك، على أن رواية مالك في الموطأ: "فأعتقت عنه رقابا كثيرة" وليس في هذا تصريح بأنها أعتقت عنه من ماله، فيحمل أن تكون أعتقت عنه من مالها، كما فعل سعد حين تصدق بماله عن أمه، فلا يبقى فيه دليل.

        الترجيح في هذه المسألة مبني على الترجيح في المسألة السابقة.

        [ ص: 184 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية