الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة التاسعة: فيمن له حق القبول والرد :

        وفيها أمور: الأمر الأول: أن يكون الموصى له رشيدا:

        يتفق الفقهاء القائلون بافتقار الوصية للقبول على وجوب قبول الرشيد، وأن حق القبول والرد له وحده، دون سواه، إن شاء قبل، وإن شاء رد، ولو كان مفلسا، ولا حق لغرمائه في جبره على القبول، لقضاء دينه; لأن المفلس لا يجبر على التكسب لوفاء دينه; لقوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة

        الأمر الثاني: أن يكون الموصى له غير جائز التصرف:

        لا يشترط كون الموصى له جائز التصرف، فتصح الوصية للصبي، والمجنون، والمغمى عليه، والنائم، والسفيه باتفاق الفقهاء.

        [ ص: 253 ] والدليل على ذلك: عموم أدلة مشروعية الوصية.

        لكن اختلف العلماء رحمهم الله فيما يتعلق بصحة قبول هؤلاء للوصية:

        وتحت هذا فروع:

        الفرع الأول: قبول المجنون للوصية:

        لا يصح قبول المجنون للوصية باتفاق الفقهاء، لكن يقبل عنه وليه.

        والدليل على ذلك:

        1 - ما سيأتي من الأدلة على عدم صحة وصية المجنون

        2 - وأما كون وليه يقبل عنه: فلأن وليه يتصرف عنه بما فيه مصلحته; لقوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا

        الفرع الثاني: قبول المعتوه للوصية :

        تقدم أن المعتوه ينقسم إلى حالتين:

        الحال الأولى: معتوه لا إدراك معه.

        فهذا حكمه حكم المجنون، وتقدم عدم صحة قبول المجنون، وإنما يقبل عنه وليه.

        الحال الثانية: معتوه معه إدراك، وهذا حكمه حكم الصبي المميز، ويأتي صحة قبول الصبي المميز للوصية.

        [ ص: 254 ] الفرع الثالث: قبول النائم، والمغمى عليه :

        النائم والمغمى عليه لا تصح وصيته بالإجماع، كما سيأتي.

        وعليه فيقبل عنه وليه; لما تقدم من أن ولي المجنون يقبل عنه، وتقدم شرط الإيجاب والقبول.

        الفرع الرابع: قبول الصبي للوصية :

        أما الصبي غير المميز، فلا يصح قبوله للوصية; لما سيأتي من عدم اعتبار قوله.

        وعلى هذا يقبل عنه وليه; لما تقدم قريبا من أن المجنون يقبل عنه وليه، وتقدم بيان شروط الإيجاب والقبول.

        وأما قبول الوصية من الصبي المميز، فقد اختلف الفقهاء في صحة قبول الصبي المميز للوصية على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: صحة قبول الصبي المميز للوصية.

        وبهذا قال الحنفية ، وهو مقتضى مذهب المالكية ، ورواية عن الإمام أحمد ، اختارها الموفق ابن قدامة .

        القول الثاني: أن قبول الصبي المميز للوصية صحيح موقوف على إجازة الولي.

        وإليه ذهب بعض المالكية .

        [ ص: 255 ] وقالوا: يتعين على الولي إجازة تصرف الصبي المميز في هذه الحالة.

        وهو الصحيح من مذهب الحنابلة .

        القول الثالث: عدم صحة قبول الصبي المميز للوصية.

        وبهذا قال الشافعية .

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        استدل القائلون بصحة وصية الصبي المميز:

        أن الصبي المميز من أهل التصرف في الجملة، وما يصدره من عقود نافعة يعد محض مصلحة، ولا ضرر فيه، فيصح من غير إذن وليه قياسا على كسب المباحات كالاحتطاب والاصطياد ونحوهما.

        دليل القول الثاني:

        استدل القائلون بوقف قبول الصبي المميز للوصية على إجازة الولي: أن إصدار الصيغ من التصرفات، والصبي المميز ليس لديه أهلية تصرف، فتبقى تصرفاته موقوفة على إجازة وليه.

        ويناقش هذا: بعدم التسليم به، فالصبي المميز من أهل التصرف، ولا يحتاج إلى إذن وليه فيما تمحضت فيه مصلحته; لأن الولي ما وضع إلا لمصلحة الصبي.

        [ ص: 256 ] أدلة القول الثالث:

        استدل القائلون بعدم صحة قبول الصبي المميز للوصية بدليل:

        1 - حديث عائشة رضي الله عنها: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ.."

        وقد ذكر النووي -رحمه الله- وجه الاستدلال من هذا الحديث: أن مقتضى الحديث إسقاط أقواله وأفعاله.

        2 - أن الصبي المميز غير مكلف، فلا يصح قبوله للوصية مطلقا كالمجنون وغير المميز.

        ويناقش هذا الدليل: بأنه قياس مع الفارق، فالصبي المميز عنده أهلية أداء قاصرة، فلا يقاس على المجنون وغير المميز; لأنهما ليس لديهما أهلية أداء ألبتة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: صحة قبول الصبي المميز للوصية; لقوة دليله، وضعف دليل المخالف بمناقشة.

        الفرع الخامس: قبول السفيه للوصية:

        اختلف العلماء رحمهم الله في حكم قبول السفيه للوصية على أقوال:

        القول الأول: صحة قبول السفيه للوصية.

        [ ص: 257 ] وهذا مذهب الحنفية ، وهو مقتضى مذهب المالكية ، والأصح عند الشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة ، صوبه المرداوي .

        القول الثاني: عدم صحة قبول السفيه للوصية.

        وهذا وجه عند الشافعية ، ووجه عند الحنابلة .

        القول الثالث: صحة قبول السفيه للوصية إذا أذن له الولي.

        وهذا مذهب الحنابلة .

        الأدلة:

        دليل القول الأول: استدل القائلون بصحة قبول السفيه:

        بأن تصحيح قبول السفيه للوصية نفع محض ليس فيه تفويت مال، بل تحصيله.

        دليل القول الثاني:

        يمكن أن يستدل للقائلين بعدم صحة قبول السفيه للوصية:

        [ ص: 258 ] بأن السفيه محجور عليه، والحجر يقتضي المنع من جميع التصرفات، ومنها العقود النافعة له، كقبول الوصية.

        ويناقش هذا الدليل: بأن الغاية من الحجر على السفيه حفظ ماله، وعدم تضييعه، وليس في تصحيح عقوده النافعة له نفعا محضا - كقبول الوصية والهبة ونحوهما - ضرر عليه وتضييع لماله، بل فيه تحصيله، فكان من مصلحة السفيه تصحيح قبوله لها.

        دليل القول الثالث:

        استدل القائلون بصحة قبول السفيه للوصية إذا أذن له الولي:

        بقياس السفيه على الصبي المميز، فإذا صح تصرف المميز بإذن وليه، فلأن يصح تصرف السفيه بإذن وليه أولى.

        الترجيح:

        ترجح لي - والله أعلم - القول بصحة قبول السفيه للوصية من غير توقف على إذن الولي; لأن الشارع إنما حجر على السفيه لمصلحته، فإذا تحققت مصلحته في عقد نافع له، كقبول الوصية والهبة ونحوهما لم يتردد في تصحيح صيغته ونفاذ عقده من غير اشتراط إذن الولي، وهل وضع الولي إلا لمصلحة السفيه؟ والمصلحة متحققة هنا.

        فرع:

        فإن كان مهملا، فله القبول عند المالكية بالأحرى، وإذا سلمه الورثة الوصية، فاستهلكها فلا ضمان عليهم، كما قال اللخمي ; لأنهم فعلوا ما أوصى به الميت، بخلاف المولى عليه، فإن الوصية تدفع لوليه، إلا أن يعلم أن الموصي قصد دفعها للمحجور، توسعة عليه، فتعطى له.

        [ ص: 259 ] الأمر الثالث: الجنين الموصى له:

        اختلف في الجنين الموصى له: من يقبل عنه؟ للعلماء في ذلك قولان:

        القول الأول: يقبل عنه وليه بعد ولادته، ولا يعتد بقبوله قبل ولادته.

        وبه قال أكثر أهل العلم.

        وحجته: أنه لا يستحق الوصية إلا بعد ولادته حيا، فالقبول قبل الاستحقاق لغو.

        القول الثاني: لا حاجة لمن يقبل عنه، والوصية تدخل في ملكه بمجرد موت الموصي، ولا حاجة لقبولها.

        ومنشأ الخلاف: اختلاف الفقهاء في الولاية على الجنين، فمذهب الجمهور أنه تجوز الوصاية عليه.

        وقال الحنفية : لا يولى عليه; لعدم حاجته إلى الولاية ما دام جنينا في بطن أمه.

        الأمر الرابع: الموصى له غير المعين:

        باتفاق الفقهاء: الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة : أن الوصية لغير المعين كالفقراء ونحو ذلك تلزم بالموت ولا تحتاج إلى قبول; لتعذره من الجميع، ولا يتعين واحد منهم.

        الأمر الخامس: الوصية للجهة، كالمسجد، ونحوه :

        فعند جمهور أهل العلم: لا تحتاج الوصية إلى قبول; لتعذره منها.

        وقال بعض الشافعية : يقبل المسؤول عنها كناظر المسجد، فإن لم يكن [ ص: 260 ] لها من يمثلها لزمت الوصية بوفاة الموصي، ولا حاجة للقبول حينئذ; لاستحالته من الموصى له، وعدم وجود من ينوب عنه.

        [ ص: 261 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية