الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفصل الثاني: تاريخ الوصية، والفرق بينها وبين ما يشبهها، وتقديم الدين عليها

        وفيه مباحث:

        المبحث الأول: تاريخ الوصية.

        المبحث الثاني: الفرق بين الوصية والهبة، والعطية، والوقف، والميراث، والإقرار بالمال.

        المبحث الثالث: تقديم الدين على الوصية.

        [ ص: 76 ] [ ص: 77 ] المبحث الأول: تاريخ الوصية

        الوصية قديمة ضاربة في القدم، عرفها البابليون وقدماء المصريين، كما عرفها اليهود الأقدمون، والرومان من بعدهم، والعرب في جاهليتهم قبل مجيء الإسلام إليهم، ومن أشهر وصاياهم توصية نزار بن معد بن عدنان ؛ إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء، ولابنه ربيعة بالفرس، ولابنه أنمار بالحمار، ولابنه إياد بالخادم، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجرهمي .

        وقد مرت الوصية بمراحل متعددة، وأطوار مختلفة، قبل مجيء الإسلام، فقد عرفت في مراحلها الأولى على عهد البابليين والمصريين حرية واسعة في المقدار والمصرف، وأخذت صفة الحق المطلق، يتمتع به من له حق الملكية في تلك المجتمعات، وكان باستطاعته أن يوصي بما شاء من أملاكه لمن شاء، وكان بإمكانه أن يحرم ورثته وأهله من جميع ثروته، ويوصي بها لغيرهم، واستمر الأمر على ذلك على عهد اليهود والرومان، وإلى أن جاءت شريعة (فالسيذيا) (40ق) فحدت من هذه الحرية، وأدخلت على الوصية بعض القيود، وحددتها في ثلاثة أرباع التركة، واحتفظت بالربع للورثة.

        وبقي المجتمع العربي الجاهلي على جاهليته لا يعرف للوصية حدودا في مصرفها ولا قدرها، وربما يوصي الواحد منهم للأباعد ويدع أقاربه؛ حبا في [ ص: 78 ] الشهرة تارة، وكراهية لأقاربه تارة أخرى، فالوصية تسير مع ما تربو عليه من الفخر والخيلاء، إلى أن جاء الإسلام، فجعل الوصية حقا من حقوق الميت في ماله بعد موته في حدود الثلث لغير وارث، والباقي لورثته; كما جاء في حديث سعد رضي الله عنه، فقد روى البخاري ومسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يعودني وأنا مريض بمكة ، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر؟ قال: "لا"، ثم قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير" .

        (14) ولما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل ، عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" .

        [ ص: 79 ] [ ص: 80 ] فنظم قدرها ومصرفها، ووضع حدا لفوضى الظلم التي عرفتها الوصية، فقضى بذلك على الظلم والحيف الذي عاش فيهما الورثة والأقارب دهورا طويلة قبل مجيء الإسلام، وكانت أول وصية في الإسلام وصية البراء بن معرور رضي الله عنه،

        (15) روى ابن المنذر من طريق عبد العزيز بن محمد ، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة سأل عن البراء بن معرور ، فقيل له: "إنه قد هلك، وقد أوصى لك بثلث ماله..." .

        [ ص: 81 ] [ ص: 82 ] وكان ذلك قبل الهجرة بشهر، فقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وردها على ورثته، ونزلت بعد ذلك آية الوصية من سورة البقرة: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين

        ثم نسخ ذلك بآية المواريث، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله.

        وذهب بعض الفقهاء: إلى أن الوصية من خصائص هذه الأمة حباها الله بها، كما حباها بخصائص أخرى؛ تشريفا لها على من سبقها من الأمم قبلها، وربما أخذوا هذا:

        مما رواه ابن ماجه من طريق وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم" .

        لكن الحديث ضعيف، وأيضا تقدم ما يدل على وجود الوصية قبل الإسلام.

        [ ص: 83 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية