الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث التاسع: الشرط التاسع: كونه غير وارث للموصي

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: حكم الوصية للوارث

        الوصية لوارث ابتداء لا تجوز عند جمهور أهل العلم.

        ونص الشافعية على الكراهة.

        الوصية لوارث باطلة إلا أن يجيزها الورثة، فإن أجازوها صحت الوصية، وإن لم يجيزوها بطلت، وعليه فللورثة حق الرجوع في هذه الوصية.

        وهذا باتفاق فقهاء المذاهب الأربعة من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة .

        [ ص: 506 ] قال المرغيناني في الهداية: "(ولا تجوز بما زاد على الثلث) ; لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "الثلث والثلث كثير" ... قال: (إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار) ; لأن الامتناع لحقهم وهم أسقطوه... وكذا إن كانت الوصية للوارث، وأجازه البقية".

        قال الخرشي في شرح مختصر خليل: "(وكذلك تبطل الوصية للوارث بأن يوصي بما يخالف حقوقهم، أو لبعض دون بعض...كما أن الوصية تبطل لغير الوارث بما زاد على ثلث الموصي يوم التنفيذ، ولا يعتبر يوم الموت، وإذا أجاز الورثة ما أوصى به الموصي لبعض الورثة، أو ما زاد على الثلث لغير الوارث، فإن ذلك يكون منهم ابتداء عطية لا أنه تنفيذ الوصية").

        قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: "(فصل: الوصية) لغير الوارث (بالزيادة عن الثلث إن كانت ممن لا وارث له خاص فباطلة) ; لأن الحق للمسلمين فلا مجيز، (وإلا فموقوفة) في الزائد (على إجازة الورثة) إن كانوا حائزين، فإن أجازوا صحت، وإن ردوا بطلت في الزائد; لأن حقهم وإن لم يكونوا حائزين فباطلة في قدر ما يخص غيرهم من الزائد، (وكذا الوصية للوارث) ولو بدون الثلث باطلة إن كانت ممن لا وارث له غير الموصى له، وإلا فموقوفة على إجازة بقية الورثة".

        قال المرداوي في الإنصاف: "قوله: (ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث لأجنبي، ولا لوارثه بشيء إلا بإجازة الورثة).

        [ ص: 507 ] قوله: (إلا بإجازة الورثة) يعني: أنها تصح بإجازة الورثة، فتكون موقوفة عليها، وهذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب".

        وقد دل على هذا القرآن، والسنة، والإجماع، والنظر.

        قال تعالى بعد ذكر المواريث: تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين

        ومن أجل المحافظة على هذه القسمة، ومنع الناس من تغييرها، أو التحايل عليها، منع الشارع الوصية للوارث قال صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" .

        أما السنة: فحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" .

        وتلقاه العلماء بالقبول، وأشار الشافعي وابن حزم إلى تواتره.

        قال الشافعي : "ورأيت متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عام الفتح: "لا وصية لوارث" ولم أر بين الناس في ذلك اختلافا".

        وأما الإجماع: فقد حكاه الشافعي ، وابن المنذر ، وابن عبد البر ، والقرطبي وغيرهم.

        [ ص: 508 ] قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك".

        قال ابن عبد البر : "قال مالك : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت، وأنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض، جاز له حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه من ذلك".

        وأما النظر: فإن جواز الوصية للوارث يؤدي إلى إبطال الحكمة من توزيع الإرث، ويمكن للموصي من توزيع الإرث كما يشاء، يعطي من أحب ويحرم من أحب، حسب شهوته وهواه، فلا تبقى فائدة في تشريع الإرث; لأن تفضيل بعض الورثة على بعض بالوصية له يخلق بينهم العداوة والحسد، فيمنع كما منع تفضيل بعض الأولاد على بعض في حال الحياة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

        (187) فقد روى البخاري ومسلم من طريق الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية ، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي فرد عطيته" .

        وذهب بعضهم: إلى صحة الوصية للوارث في حدود الثلث .

        [ ص: 509 ] قال الشوكاني : وحكى صاحب البحر عن الهادي والناصر وأبي طالب وأبي العباس أنها تجوز الوصية للوارث".

        وحجتهم:

        1 - قوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن آية الوصية فإجماع المسلمين منعقد على نسخها في حق الورثة، والخلاف بين العلماء محصور في أمرين: هل نسخت كلها؟ أو نسخت في حق من يرث، وبقيت في حق من لا يرث؟.

        والثاني: في تعيين ناسخها، ولا قائل بأنها محكمة فيمن يرث ومن لا يرث، فالاحتجاج بها مع الإجماع على نسخها في حق الوارث خطأ، وجهل أن المنسوخ لا يحتج به.

        الوجه الثاني: وعلى تسليم عدم نسخها، فإن التمسك بها يقتضي من المستدلين بها القول بوجوب الوصية للوارث، لا جوازها فقط; لأن الآية صريحة أو ظاهرة في الوجوب.

        2 – ولقاعدة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: بأن موضوع القاعدة إذا كان النسخ مبهما، ليس في الناسخ بيان حكم المنسوخ، كما لو قال الشارع: نسخ وجوب الوصية للوالدين، ففي مثل هذه الحالة يقع السؤال عن حكم الوصية بعد نسخ وجوبها [ ص: 510 ] ؛ لسكوت الناسخ عن حكم المنسوخ، ويأتي القول حينئذ بأن نسخ الوجوب لا يقتضي المنع، أو إذا نسخ الوجوب بقي الجواز.

        الوجه الثاني: أنه هو إذا كان لا يقتضي المنع فهو أيضا لا يقتضي الجواز، فلا بد من دليل على الجواز، ولا يكفي القول بأن الأصل في الأشياء الإباحة; لأن الأصل في الوصية المنع كما سبق; لأنها تصرف بعد فقدان أهلية التصرف.

        3 - القياس على الأجنبي، فإنه إذا جازت الوصية للأجنبي كان جوازها للوارث أولى وأحرى; لمكافأته على إحسانه.

        ونوقش: بأنه قياس في محل النص، وهو حديث: "لا وصية لوارث" ، فهو فاسد الاعتبار لا تقوم به حجة، كما يقول الأصوليون.

        4 - وبأن الحكمة من مشروعية الوصية تحقيق مصالح الناس، وقد تكون مصلحة الموصي في الوصية لبعض ورثته لصغره، أو فقره أو بره به، أو لمرضه وحاجته إلى الدواء، كما قد تكون مصلحة في حرمان بعض الورثة لعقوقه، وسوء معاملته، فلا تطيب نفسه بالتسوية بينه وبين من بره وأحسن إليه.

        ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:

        أولا: أنه مصادم لتسوية الشارع بين البار والعاق في الميراث والوصية.

        ثانيا: أن الحكمة من الوصية كما بينها الله ورسوله في الأحاديث النبوية السابقة هي تمكين الإنسان من الإكثار من الحسنات وتكفير السيئات، وهي حكمة منصوصة لا حاجة لاستنباط حكمة لا دليل عليها، وتتناقض مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدعو إلى المحافظة على وحدة العائلة وتماسكها، وقطع أسباب العداوة والشحناء بينها.

        [ ص: 511 ] وليس من الحكمة تمكين الإنسان من الانتقام من أهله، وإشعال نار الحسد والعداوة بينهم، وتوديعهم بهذا التصرف المنحاز، الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من سلوكه حال حياته وصحته وقدرته على تدارك الأمر، حتى رد عطية والد النعمان لبعض ولده دون بعض، وأبى أن يشهد على ذلك، وقال له: أشهد على ذلك غيري، فإني لا أشهد على جور - اعدلوا بين أولادكم - أن القول بأن الحكمة من الوصية تمكين الناس من تحقيق مصالحهم التي قد تكون في الإحسان إلى من يراه الموصي أهلا لإحسانه، وحرمان من يراه أهلا لمعاقبته قول يجانب الصواب، وتفوح منه روح الأنانية، وحب الذات، والتمسك بالمال حتى آخر لحظة من الحياة.

        ويضاف إلى ذلك أن الوصية التي تقوم على أساس المكافأة ورد الجميل، والرغبة في معاقبة من يريد، هي وصية بعيدة عن الوصية الشرعية التي جاء بها الإسلام، وهي التي تكون للتقرب إلى الله بالمال لزيادة العمل والأجر، وأما الوصية المكافئة فلا يراد بها وجه الله، ولا يتحقق فيها الإخلاص، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية