الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثالث: الوصية للمبهم

        مثل لو قال: أوصيت لأحد هذين الرجلين أو لإحدى خالتي، أو فلان، أو فلانة:

        وفيها مسألتان:

        المسألة الأولى: حكم الوصية للمبهم :

        أولا: تحرير محل النزاع:

        قال في الإنصاف: "قال ابن رجب : محل الخلاف فيما إذا قال: "لجاري فلان" باسم مشترك، إذا لم يكن قرينة. فإن كان ثم قرينة، أو غيرها، أنه أراد معينا منهما، وأشكل علينا معرفته: فهنا تصح الوصية بغير تردد، ويخرج المستحق منهما بالقرعة في قياس المذهب".

        قال ابن رجب : "الوصية لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم، فله حالتان: إحداهما: أن يعلم بقرينة أو غيرها أنه أراد واحدا منهما معينا، وأشكل علينا معرفته، فههنا يصح الوصية بغير تردد، ويخرج المستحق منهما بالقرعة على قياس المذهب في اشتباه المستحق للمال بغيره من الزوجة المطلقة، والسلعة المبيعة وغيرهما.

        والحالة الثانية: أن يطلق وقد يذهل عن تعيين أحدهما بعينه، فهو [ ص: 429 ] كالوصية لأحدهما مبهما، وكذلك حكى الأصحاب في الصحة روايتين، ولكن المنصوص عن أحمد الصحة".

        ثانيا: عند جمهور العلماء: أنه إذا قال: أعطوها لأحدهما صحت; لأن التفويض للورثة في الإعطاء، وهم يعطون معينا فلا إبهام.

        ولأنه إذن في التمليك وليس تمليكا منه.

        وكما لو قال لوكيله: بعه لأحد هذين.

        وفي وجه للحنابلة : أنه لا يصح، وهو ضعيف لعدم ما يعضده.

        وإن لم يقل، فللعلماء ثلاثة آراء:

        القول الأول: أنها صحيحة.

        وبه قال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن .

        وهو مذهب المالكية ، ورواية عن أحمد .

        قال ابن رشد : "وأما صفة العوض - أي: في الخلع - فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب، ومالك يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها، والعبد غير الموصوف، وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم.

        [ ص: 430 ] وسبب الخلاف تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع، أو الأشياء الموهوبة والموصى بها، فمن شبهها بالبيوع اشترط ما يشترط في البيوع وفي أعراض البيوع، ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك".

        وقال القرافي : "وقد فصل مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان أحدهما: معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة، فإن هذه التصرفات إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه; لأنه لم يبذل شيئا، بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالة ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له بعيره الشارد جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده ; لأنه لم يبذل شيئا".

        وحجته:

        1 - عمومات أدلة الوصية.

        2 - القياس على من أعتق أحد عبديه ثم مات قبل التعيين، فإن العتق يشمله ويعتق من كل نصفه، وكذا الوصية.

        [ ص: 431 ] القول الثاني: أنها باطلة.

        وبه قال أبو حنيفة ، وهو مذهب الشافعية ، والحنابلة .

        وحجته: عدم تعيين الموصى له صحيحة، فلا يتصور الملك له ما دام على جهالته؛ قياسا على من أوصى لواحد من الناس.

        ونوقش هذا الاستدلال: بوجود الفرق; فالوصية لواحد من الناس جهالته مطلقة كثيرة، والوصية لأحد هذين جهالته مقيدة يسيرة مآلها إلى العلم.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: صحة هذه الوصية; إذ الوصية من عقود التبرعات التي يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها، ولأنها فعل خير، وقربة فيكثر منها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية