الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الرابع حكم قبول الوصية

        اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم قبول الوصية :

        القول الأول: يستحب للموصى له قبول الوصية، وعدم ردها إذا لم يكن عليه ضرر في قبولها.

        وهو قول جمهور أهل العلم.

        القول الثاني: وجوب قبول الوصية.

        فقد ذهب ابن حزم إلى وجوب قبول العطايا كلها وحرمة ردها، وتدخل في ذلك الوصية.

        وقال عبد الله بن عون : "الأولى ردها وعدم قبولها لمن كان غنيا عنها".

        الأدلة:

        أدلة الجمهور: (الاستحباب):

        استدل لهذا القول بما يلي:

        [ ص: 185 ] 1 - قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا

        وجه الدلالة: أن الله عز وجل أمر بالأكل مما تهبه الزوجة لزوجها من صداقها، والأكل غير متعين، فدل على عدم وجوب قبول الوصية.

        (74) 2 - ما رواه البخاري من طريق الزهري ، عن عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم ، أن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"، قال حكيم : فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم ، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه ، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر حكيم بن حزام على ألا يقبل من أحد شيئا.

        [ ص: 186 ] (75) 3 - ما رواه مسلم من طريق عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح" .

        (76) وروى الترمذي من طريق عبد الله بن مسلم ، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا ترد: الوسائد، والدهن، واللبن" .

        (حسن).

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رد بعض أنواع الهبات، فدل ذلك على جواز رد ما سواها من العطايا، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر وجه.

        4 - اقتداء برسول الله في قبوله وصية البراء له بثلث ماله، ووصية مخيريق له بجميع ماله.

        فقد روى الواقدي : "كان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد: يا معشر اليهود، إنكم لتعلمون أن محمدا نبي، وأن نصره عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت، ثم أخذ سلاحه، ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه القتل.

        فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود، وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد ، قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله"
        .

        [ ص: 187 ] 5 - مساعدة الموصي على حصول أجر الوصية، وثوابها له.

        6 - أنه لا يجبر أحد على تملك شيء بغير إرادته; لقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم

        والوصية أولى بهذا الحكم; لما يلحق الموصى له من المنة التي قد لا يتحملها، فلا يجبر على قبولها.

        7 - أن في إلزامه القبول إضرارا به؛ لما قد يترتب على تملك الوصية من واجبات، كان في غنى عنها، فلا يجبر على قبولها; لحديث: "لا ضرر [ ص: 188 ] ولا ضرار" ؛ ولذلك يجب تأويل الأحاديث السابقة، يحمل الأمر على الندب جمعا بين الأدلة.

        وحجة من قال: الأولى تركها: القياس على الصدقة، فإن الأفضل تركها للغني،

        (77) فقد روى البخاري ومسلم من طريق نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفف، والمسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا: هي المنفقة، والسفلى: هي السائلة" .

        أدلة القول الثاني: (الوجوب):

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        (78) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء، فيقول له عمر : أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك" قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا أعطيه" .

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه أن يأخذ ما أتاه من غير إشراف [ ص: 189 ] ولا مسألة، فلفظ: "ما جاءك" عام، والعام الوارد على سبب خاص معتبر عمومه; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الأصوليون .

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن هذا الأمر أمر ندب، فقد نقل ابن حجر عن الطبري أن أهل العلم أجمعوا على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (خذه)، أمر ندب.

        الثاني: أن هذا الحديث إنما هو في العطايا التي هي من بيت المال.

        الثالث: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بأخذ المال في هذا الحديث; لكونه عمل له عملا فيكون قد أعطاه بذلك حقه.

        2 - ما تقدم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم للوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب.

        (79) 3 - ما رواه مسلم من طريق بسر بن سعيد ، عن ابن الساعدي المالكي أنه قال: استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمني، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق" .

        ونوقش الاستدلال: بما نوقش به الدليل السابق.

        (80) 4 - ما رواه الإمام أحمد من طريق إسرائيل ، عن الأعمش ، عن [ ص: 190 ] شقيق ، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين" .

        والوصية ملحقة بالهدية بجامع التبرع.

        ونوقش الاستدلال لهذا الحديث: أن النهي هنا للكراهة; لما تقدم من أدلة الجمهور.

        (81) 4 - ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب قال: "رأيت ابن عمر وابن عباس يأتيهما هدايا المختار فيقبلانها".

        (82) 5 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الملك بن عمير قال: "أرسل معي بشر بن مروان بخمسمائة إلى خمسة أناس؛ إلى أبي جحيفة ، وإلى [ ص: 191 ] أبي رزين ، وعمرو بن ميمون ، ومرة ، وأبي عبد الرحمن ، فردها أبو رزين ، وأبو جحيفة ، وعمرو بن ميمون ، وقبلها الآخرون" .

        (83) 6 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سماك بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة رضى الله عنها "فأتاها رسول من عند معاوية بهدية فقبلتها .

        (84) 7 - ما رواه ابن حزم من طريق حماد بن سلمة ، نا ثابت البناني ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل" .

        (85) 8 - ما رواه ابن حزم من طريق الحجاج بن المنهال ، نا مهدي بن ميمون ، نا واصل مولى أبي عيينة ، عن صاحب له، أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: من آتاه الله عز وجل من هذا المال شيئا من غير مسألة، ولا إشراف فليأكله وليتموله" .

        والوصية ملحقة بالهدية بجامع التبرع .

        ونوقشت هذه الآثار: أنها محمولة على الاستحباب; لما تقدم من أدلة الجمهور.

        9 - من جهة النظر، فإن رد الوصية بعد موت الموصي حرمان له من أجر وصيته، وصد عن سبيل من سبل الخير; لتعذر استدراك ذلك على الموصي، وذلك مخالفة لما فرضه الله من النصح للمسلم;

        [ ص: 192 ] (86) لما رواه مسلم من طريق عطاء بن يزيد ، عن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن النصيحة ليست واجبة على سبيل الإطلاق، ومن ذلك النصيحة بقبول الوصية; لما تقدم من أدلة القول الأول.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: استحباب قبول الوصية ; لقوة الدليل على ذلك، ولمناقشة الدليل المخالف.

        [ ص: 193 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية