الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثالث: الوصية بمال الغير عن الغير

        (وصية الفضولي)

        إذا أوصى بمال للغير عن الغير، فهل ينفذ بالإجازة؟ للعلماء في ذلك قولان:

        القول الأول: أنه شرط صحة، وأن وصية الإنسان بمال غيره وصية باطلة، وهو قول جمهور العلماء.

        والقول الثاني: أنها وصية صحيحة موقوفة على إجازة المالك.

        وهو قول الحنفية ، وبعض المالكية مع اختلاف بينهم إذا أجازها المالك ثم رجع.

        فالحنفية يرون أنه لا تلزمه الإجازة مطلقا، سواء أجازها في حياة الموصي أو بعد موته إلا أن يقبضها للموصى له، ويسلمها له، فلا رجوع له بعد ذلك، بينما يقول بعض المالكية بلزوم الإجازة إذا أجازها بعد موت الموصي، ولا رجوع للمالك بعد إجازتها.

        ومنشأ الخلاف سببان:

        الأول: الخلاف في تصرفات الفضولي في مال غيره ، فمن رآها باطلة قال ببطلان وصية الإنسان في مال غيره، ومن رآها صحيحة موقوفة على إجازة المالك قال بصحة الوصية بمال الغير ووقفها على إجازته.

        وفرق جمهور المالكية بين معاوضاته وتبرعاته، فقالوا بصحة معاوضاته، [ ص: 368 ] وبطلان تبرعاته; لأن تبرعاته محض ضرر بالمالك، لا نفع له فيها، بخلاف معاوضاته فلم يتمحض فيها الضرر، أعطي المالك الخيار.

        السبب الثاني: الخلاف أيضا في الهبة، هل تلزم بالعقد أو لا تلزم إلا بالقبض؟ الأول: هو المشهور في مذهب مالك في الجملة، والثاني: هو مذهب الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .

        فمن رأى أن الهبة لا تلزم بالقول قال هنا: يجوز للمالك الرجوع بعد الإجازة; لأن وصية الفضولي بمال الغير بمنزلة هبته وتصدقه به، فلا تلزم بالقول، ولا يجبر أحد على تسليم ماله لغيره، وهو قول الحنفية .

        ومن رأى أن الهبة تلزم بالقول، ويجبر الواهب على تسليمها للموهوب له، قال: إذا أجاز المالك وصية الفضولي بماله لم يجز له الرجوع، ويجبر على تسليم الوصية له، وهو قول البعض من المالكية .

        القول الأول: صحة وصية الفضولي بالإجازة.

        وهو مذهب الحنفية ، وبه قال بعض المالكية ، والشافعي في القديم، ورواية عند الحنابلة .

        أدلة القول الأول:

        1 - قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى

        [ ص: 369 ] وجه الدلالة: أن في وصية الفضولي إعانة لأخيه المسلم; لأنه يكفيه عنت هذا التصرف إذا كان مختارا له.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، بل من الإثم والعدوان; لأنه تصرف في ملك الغير بلا إذن.

        وأجيب: بعدم التسليم; إذ لا ضرر على المالك; إذ هو موقوف على إجازته.

        (154) 2 - ما رواه البخاري من طريق شبيب بن غرقدة ، عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه" .

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عروة وكالة مطلقة، وإذا كان كذلك فقد حصل البيع والشراء بإذن.

        وأجيب: بأن سياق الحديث يأبى ذلك; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بشراء شاة، ولم يوكله ببيعها.

        الوجه الثاني: أن عروة اشترى لنفسه، ووفى بدينار النبي صلى الله عليه وسلم مستقرضا [ ص: 370 ] له، فصار الدينار في ذمته، ثم باع شاته بدينار، فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما لزمه وأهدى إليه الشاة الأخرى.

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: أنه لا دليل على ذلك، بل الدليل دل على خلافه; فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرح بفعل عروة ، ودعا له، ولو كان الشراء لعروة لما استحق ذلك.

        الثاني: أنه لو سلم ذلك، وأنه استقرض دينار النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت جواز تصرف الفضولي; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لعروة باقتراض الدينار أولا، وأقره على ذلك.

        (155) 3 - ما رواه أبو داود من طريق أبي حصين ، عن شيخ من أهل المدينة ، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته" .

        ونوقش: بأنه ضعيف.

        (156) 4 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري ، حدثني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه..." قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم [ ص: 371 ] فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون " .

        وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الحديث مساق المدح للمستأجر الذي تصرف في مال الأجير بغير إذنه، فثمره له.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أنه في شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا.

        وأجيب: بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يخالفه شرعنا، كيف وقد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، مما يدل على إقراره، فيكون شرعا لنا.

        الوجه الثاني: أنه استأجره بشيء في الذمة، وما كان في الذمة لا يتعين إلا بالقبض، ثم إن المالك تصرف فيه وهو في ملكه، فصح تصرفه، سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره.

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: عدم التسليم بأنه لم يعين الأجر، بل الظاهر أنه عينه ولم يقبضه إياه، وهذا ظاهر الحديث، وحينئذ يكون قد عمل في مال الغير.

        الثاني: أنه ورد ما يدل على أنه قبض الأجر،

        (157) فقد روى الإمام أحمد من طريق عبد الصمد - يعني: ابن معقل - قال: سمعت وهبا يقول: حدثني النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 372 ] يذكر الرقيم...فقال: "فقلت: يا عبد الله، لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت، قال: فغضب وذهب وترك أجره، قال: فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثم مرت بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله" .

        الوجه الثالث: أن المستأجر أعطاه أكثر من حقه، وأبرأه الأجير من عين حقه، وكلاهما متبرع بذلك من غير شرط، وهذا جائز.

        وأجيب: بأن سياق الحديث يدل على أنه أعطاه حقه بعدما ثمره له، إلا أنه تبرع له.

        (158) 5 - ما رواه البخاري من طريق عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة" .

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر تصرف أبي هريرة في تركه للشيطان بعد أخذه من الطعام، وقد وكل به.

        6 - أن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.

        7 - أنه تصرف صدر من أهله لكون ممن يصح تصرفه في محلة، ولا ضرر في انعقاده موقوفا، فينعقد كما لو أذن المالك.

        8 - أن الملتقط لو تصدق باللقطة صار تصرفه موقوفا على الإجازة، فكذا غيره.

        [ ص: 373 ] القول الثاني: عدم صحة وصية الفضولي مطلقا.

        وهو قول عند المالكية ، وبه قال الشافعي في الجديد، وهو مذهب الحنابلة .

        واستدلوا:

        1 - بما تقدم من الأدلة على اشتراط رضا الموصي.

        2 - قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مسلم مع عدم الإجازة، أما مع الإجازة فقد تحصل الرضا.

        (159) 3 - ما رواه الإمام أحمد من طريق أيوب ، حدثني عمرو بن شعيب ، حدثني أبي، عن أبيه قال: ذكر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" .

        (حسن).

        [ ص: 374 ] [ ص: 375 ] [ ص: 376 ] وجه الدلالة: أن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملك منهي عنه شرعا، والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه.

        نوقش الاستدلال بالحديث من وجوه:

        الوجه الأول: أن معنى الحديث: لا تبع ما ليس عندك مما لا تملكه لا أصالة ولا يدا، وليس معناه لا تبع ما لا تملكه أصالة وإن كان بيدك وكالة; وإلا لما صح بيع الوكيل، مع أن بيع الوكيل يصح بالإجماع.

        ولا فرق بين الوكيل وبين الفضولي في نفس البيع; لأن كل واحد منهما بائع ملك غيره، والفرق إنما هو في الإذن وعدمه، وهو غير مؤثر.

        وأجيب: بأن الإذن للوكيل يجعل المعقود عليه مقدور التسليم، فلا يكون الفضولي مثله; لأنه لا يقدر على التسليم.

        ورد على هذا الجواب بأمرين:

        الأول: أنا لا نسلم بأن الفضولي لا يقدر على التسليم، بل يقدر عليه، [ ص: 377 ] وإنما لا يقدر على تنفيذ العقد وتصحيحه، وليس في الحديث ما يدل على المنع من ذلك.

        الثاني: أن القدرة على التسليم ثابتة بعد الإجازة، والقدرة على التسليم تجب بحسب البيع، فإذا كان البيع باتا فيجب أن تكون القدرة باتة، وإذا كان موقوفا فالقدرة موقوفة، والقدرة الموقوفة موجودة، فلم يصح الفرق.

        الوجه الثاني: أن الحديث محمول على البيع المطلق، وهو البيع البات النافذ، وحينئذ فلا يدخل في محل النزاع.

        الوجه الثالث: أن الحديث محمول على بيع الشخص لنفسه لا لغيره; بدليل قصة الحديث، فإن حكيما رضي الله عنه كان يبيع شيئا لا يملكه ثم يشتريه ويسلمه.

        (160) 4 - ما رواه الإمام من طريق مطر ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على رجل طلاق إلا فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك" .

        [ ص: 378 ] [ ص: 379 ] ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:

        الأول: أنه ضعيف.

        الثاني: أنه محمول على ما إذا لم يجز المالك.

        أن المقصود بالأسباب الشرعية أحكامها لا مجرد السبب، فإذا لم تفد الحكم لا تعتبر، وحكمها - وهو التمليك - لا يتصور من غير مالك فيلغو.

        ونوقش: أنه غير مسلم، بل تصرف الفضولي يفيد ملكا موقوفا; لأنه اللائق بالسبب الموقوف، كما يفيد السبب البات الملك البات; لأنه اللائق به.

        6 - أن وصية الفضولي قد خرجت من المالك بدون عوض بخلاف البيع.

        ونوقش: بأنه غير مسلم، بل وصية الفضولي لم تخرج من مالكها إلا بإذنه.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: صحة وصية الفضولي بالإجازة; لقوة دليله ومناقشة القول الآخر.

        [ ص: 380 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية