الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الرابع: وصية السفيه

        اختلف العلماء في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن وصية السفيه صحيحة إذا وافقت الحق.

        وهذا مذهب الحنفية استحسانا.

        [ ص: 339 ] وبه قال المالكية ، وهو المذهب عند الشافعية ، والحنابلة ، وعليه جماهير الأصحاب.

        وخص الحنفية صحة الوصية في القرب، فلا تصح لغني فاسق.

        قال الشربيني : "تصح وصيته على المذهب" ; لصحة عبارته، ونقل فيه ابن عبد البر ، والأستاذ أبو منصور وغيرهما الإجماع.

        وإنما أفرده المصنف مع دخوله في المكلف الحر بالذكر للخلاف فيه".

        القول الثاني: أن وصية السفيه غير صحيحة.

        وهو وجه القياس عند الحنفية ، وقول عند الشافعية إن كان السفيه محجورا عليه، أما إذا لم يحجر عليه فوصيته صحيحة.

        وهو وجه عند الحنابلة .

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        1 - عموم أدلة مشروعية الوصية.

        2 - ما تقدم من الأدلة على صحة وصية الصبي المميز، فصحة وصية السفيه من باب أولى; لأنه عاقل.

        [ ص: 340 ] 3 - ما سيأتي من الأدلة على مشروعية الحجر على السفيه.

        وجه الدلالة: أن الحكمة من الحجر حفظ ماله، وهذا متحقق بالوصية.

        4 - إجماع أهل المدينة ، وقد حكاه الإمام مالك في الموطأ:

        قال يحيى : سمعت مالكا يقول: "الأمر المجتمع عليه عندنا: أن الضعيف في عقله، والسفيه، والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياه، إذا كان معهم ما يعرف من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به، فأما من ليس معه من عقله ما يعرف به ما يوصى به، وكان مغلوبا على عقله، فلا وصية له".

        5 - أن السفيه إنما منع من إخراج ماله على غير عوض خوف الفقر عليه، والوصية تنفذ بعد موته، والفقر مأمون عليه في تلك الحال، فلا يبقى مانع منها.

        6 - أن الحجر عليه لحظ نفسه، ولو منعاه من الوصية كان الحجر عليه لحظ الورثة.

        7 - أنه إنما منع من التصرف في ماله خوفا من ضياعه، والوصية ليس فيها إضاعة مال; لأنه إن عاش فالموصى به باق في ملكه، وإن مات فهو إلى الثواب أحوج، وقد حصل بالوصية.

        8 - أن السفيه كامل الأهلية، فتجب عليه العبادة، وتلزمه العقوبة، وإنما حجر عليه لمصلحة نفسه، محافظة على ماله.

        9 - أن الوصية في وجوه الخير عبادة، وهو من أهلها.

        [ ص: 341 ] 10 - قياس وصيته على عباداته بجامع أن كلا منهما قربة لله تعالى، فإذا صحت عبادته صحت وصيته.

        أدلة القول الثاني:

        استدل القائلون بعدم صحة وصية السفيه:

        1 - قول الله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم

        وجه الدلالة: أن الله علق دفع أموال اليتامى إليهم على شرطين - هما البلوغ والرشد - والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما، فدلت على أن البالغ السفيه لا يدفع إليه ماله، بل يمنع من التصرف فيه حتى يرشد، ومن ذلك الوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الآية تدل على منع المال من اليتيم إلى أن يؤنس منه الرشد بعد البلوغ، وليس في الآية ما يدل على الحجر عليه عن التصرف.

        وأجيب عن هذه المناقشة: بأن منع المال منه لا يفيد شيئا إذا كان تصرفه نافذا; لأنه يتلف ماله بنفوذ تصرفه وإقراره، ثم لو كان تصرفه نافذا لسلم إليه [ ص: 342 ] ماله كالرشيد، فإنه إنما يمنع ماله حفظا له، فإذا لم يتحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل.

        ورد هذا: بأن نفوذ التصرف في الوصية لا يلزم منه تلف المال، ففارقت الوصية غيرها من التصرفات، كما في أدلة القول الأول.

        2 - قول الله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل

        وجه الدلالة: أن الله جل وعلا أثبت الولاية على السفيه، وجعله مسلوب العبارة في الإقرار، وذلك لا يتصور إلا بالحجر عليه.

        3 - قول الله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما

        وجه الدلالة: أن المراد بقوله: أموالكم أي: أموالهم، فأضاف الأموال إلى الأولياء مع كونها للسفهاء; لأنهم القوامون عليها، والمتصرفون فيها، فكانت الآية نصا في إثبات الحجر على السفيه والنظر له، فإن الولي هو الذي يباشر التصرف في مال السفيه على وجه النظر له.

        والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى: قوله تعالى بعد ذلك: وارزقوهم فيها واكسوهم

        (144) 4 - ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبيد ، حدثنا إسماعيل بن [ ص: 343 ] الفضل البلخي ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا على أيدي سفهائكم" .

        ونوقشت هذه الأدلة: بأنها دليل على مشروعية الحجر على السفيه في تصرفاته في ماله في الحياة لضررها، وهذا غير موجود في تصرفاته فيما بعد الموت، بل تبرعه بعد الموت مصلحة محققة له، كما في أدلة الرأي الأول.

        5 - لا تصح وصية السفيه قياسا على هبته.

        ونوقش: بأنه قياس مع الفارق; لأن الهبة تنتقل بها الملكية في الحياة، فيحصل بها ضرر للواهب في حياته بما يفوت من ماله، بخلاف الوصية.

        الترجيح:

        ترجح لي - والله أعلم بالصواب -: القول بصحة وصية السفيه; لقوة دليل من قال به، ولأن المعنى الموجود في الحجر على السفيه غير موجود في إمضاء وصيته وتصحيحها ; لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت.

        [ ص: 344 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية