الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثالث: الإشارة:

        وفيه فروع:

        الفرع الأول: إشارة الأخرس:

        إشارة الأخرس إن كانت الإشارة مفهومة تنعقد بها الوصية اتفاقا ، والدليل على ذلك:

        1 - ما سيأتي من الأدلة على اعتبار الإشارة في الأحكام الشرعية.

        [ ص: 231 ] 2 - أن إشارته أقيمت مقامة نطقه في طلاقه وغيره، فتصح بها وصيته.

        3 - أنه يعمل بإشارة الأخرس; لأنه عاجز عن النطق.

        الفرع الثاني: إشارة القادر على الكلام:

        اختلف العلماء في حكم وصية القادر على الكلام على قولين:

        القول الأول: أنها تنعقد وصيته بالإشارة.

        وهو المشهور في مذهب مالك.

        القول الثاني: أنه لا تنعقد الوصية بالإشارة من القادر على الكلام .

        وهو مذهب الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .

        قال في المغني: "لا خلاف أن إشارة القادر لا تصح بها وصية ولا إقرار"، كأنه رأى أن البدل لا يقوم مقام المبدل منه في حال القدرة عليه.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        (105) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك ، أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، [ ص: 232 ] ونادى كعب بن مالك ، قال: "يا كعب " قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب : قد فعلت يا رسول الله .

        (106) 2 - ما روى البخاري ومسلم من طريق قتادة ، عن أنس رضي الله عنه: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، قيل: من فعل هذا بك، أفلان، أفلان؟ حتى سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين" .

        (107) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" .

        فدلت هذه الأدلة وغيرها على الاعتداد بالإشارة في الأحكام الشرعية .

        4 - أن الإشارة المفهمة تقوم مقام الكلام في الإفهام، والدلالة على المقصود والتفاهم والتخاطب.

        [ ص: 233 ] 5 - قياس الإشارة على القول بجامع أن كلا يفهم المقصود ويبين المراد، وأن المعاملات تنعقد بما يدل عليها، ولو بالمعاطاة.

        أدلة القول الثاني:

        1 - أنه قادر على النطق، فلم تصح وصيته بالإشارة، كما لو لم تفهم.

        ونوقش هذا الاستدلال: بوجود الفارق; إذ الإشارة المفهومة دل الشرع على اعتبارها، وغير المفهومة ألغاها الشرع.

        2 - أنه لا تصح وصيته قياسا على البيع.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين: الوجه الأول: أن الأصل المقيس عليه موضع خلاف.

        الوجه الثاني: أنه قياس مع الفارق; إذ البيع من عقود المعاوضات، ويطلب فيها من التحرير والضبط ما لا يطلب في غيرها، وأما الوصية فمن عقود التبرعات، فلا يطلب فيها ما يطلب في عقود المعاوضات.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: صحة الوصية بالإشارة المفهومة; لأنها معتبرة شرعا، ولأنه يتوسع في عقود التبرعات، وخصوصا الوصية، ما لا يتوسع في غيرها من العقود.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية