الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفرع الثالث: وصية معتقل اللسان :

        إذا اعتقل لسان إنسان وأصبح لا يتكلم لآفة بعد أن كان ناطقا، فهل تصح وصيته بالإشارة؟.

        إن كانت إشارته غير مفهومة، فلا تصح اتفاقا.

        [ ص: 234 ] وإن كانت مفهومة فاختلف العلماء - رحمهم الله - في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن وصيته صحيحة بالإشارة المفهومة.

        وبه قال المالكية ، والشافعية ، وهو قول عند الحنابلة ، وبه قال ابن المنذر .

        القول الثاني: أن وصيته لا تصح إلا بشرط أن يئس من رجوع كلامه.

        وهو مذهب الحنفية ، والحنابلة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة وصيته):

        1 - ما تقدم من الأدلة على صحة اعتبار الإشارة في الأحكام الشرعية.

        (108) 2 - ما يروى أن أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنهما أصمتت، فقيل لها: ألفلان كذا؟ ولفلان كذا؟ فأشارت أي: نعم، فرفع ذلك فرئيت أنها وصية.

        ونوقش: قال ابن قدامة : "وهذا لا حجة فيه; لأنه لم يذكر من الراوي لذلك، ولم يعلم أنه قول من قوله حجة، ولا علم هل كان ذلك لخرس يرجى زواله أم لا".

        3 - أنه عاجز عن النطق فهو كالأخرس.

        أدلة القول الثاني:

        1 - قياس العاجز على القادر بجامع أنه غير ميؤوس من نطقه.

        [ ص: 235 ] ونوقش الاستدلال من وجوه:

        الأول: أنه قياس لا يصح; لأنه قياس على مختلف فيه، فإن القادر تصح منه الإشارة كما سبق.

        الثاني: قياس مع وجود الفارق; فإن القادر غير معذور عند القائلين بعدم الاعتداد بإشارته، بخلاف العاجز فإنه معذور، لا قدرة له على الكلام، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

        الثالث: أنه معارض بقياسه على الأخرس خلقة، بجامع العجز في كل، وإن كان في أحدهما أصليا وفي الآخر طارئا، وهذا أولى من قياسه على القادر، فإنه من قياس الشيء على ضده، وهو لا يصح.

        الرابع: أنه قياس مع وجود النص في الجملة، وهو الأحاديث السابقة.

        2 - أن التفريط جاء من قبله؛ حيث أخر وصيته إلى هذا البيت; بخلاف الأخرس فإنه لا تفريط من جهته.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مأذون له بالتأخير شرعا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، والقاعدة: أن ما ترتب على المأذون غير مضمون.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: صحة وصيته ; لما تقدم في المسألة السابقة، ولأن الإنسان مأمور بالوصية وجوبا، أو ندبا، كما سبق، والعاجز لا يقدر على الوصية إلا بالإشارة، فإبطال وصيته بالإشارة المفهمة حرمان له من حقه في الوصية الذي أعطاه له الله ورسوله، وقد يفاجئه الموت قبل القدرة على الكلام، ولعل هذا هو الذي حدا بأبي حنيفة أن يقول بصحتها بالإشارة من المعتقل لسانه، والمريض إذا استمر عاجزا عن الكلام حتى مات.

        [ ص: 236 ] فرع:

        اختلف من قال: لا تصح وصيته حتى يئس من كلامه، متى يقع اليأس؟

        فقال الحنفية في المعتمد عندهم: إنه لا يقع اليأس من كلامه إلا بموته.

        فإذا اتصل الاعتقال بالموت، صحت وصيته بإشارته المفهومة، وهو وجه عند الحنابلة .

        وقال الحنابلة: إنه يقع اليأس من رجوع كلامه إليه، بقول عدلين من أطباء المسلمين.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية