الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثاني: الكتابة:

        وتحته فروع:

        الفرع الأول: إيجاب الوصية بالكتابة :

        لا خلاف في انعقاد الوصية بالكتابة من القادر على النطق، والعاجز عنه.

        قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أن الموصي إذا كتب كتابا، وقرأه على الشهود، وأقر بما فيه أن الشهادة عليه جائزة".

        قال في غمز عيون البصائر: "وأما الوصية بالكتابة; فقال في شهادات المجتبى: كتب صكا بخط يده إقرارا بمال أو وصية، ثم قال لآخر: اشهد علي من غير أن يقرأ له، وسعه أن يشهد (انتهى).

        وفي الخانية من الشهادات: رجل كتب صك وصية، وقال للشهود: [ ص: 215 ] اشهدوا بما فيه ولم يقرأ وصيته عليهم. قال علماؤنا: لا يجوز للشهود أن يشهدوا بما فيه، وقال بعضهم: يسعهم أن يشهدوا.

        والصحيح أنه لا يسعهم، وإنما يحل لهم أن يشهدوا بإحدى معان ثلاثة: إما أن يقرأ الكتاب عليهم، أو كتب الكتاب غيره، وقرأ عليه بين يدي الشهود، ويقول لهم: اشهدوا علي بما فيه، أو يكتب هو بين يدي الشاهد، والشاهد يعلم بما فيه، ويقول هو: اشهدوا علي بما فيه".

        وقال في حاشية الدسوقي: "إن الموصي إذا كتب وصيته بخطه أو أملاها لمن كتبها، وقال للشهود: اشهدوا علي أن ما في هذه الوثيقة وصيتي، أو على أني أوصيت بما فيها، ولم يقرأها عليهم، فإنه يجوز لهم القدوم على الشهادة بأنه أوصى بما انطوت عليه هذه الوثيقة، فقول المصنف: (ولهم الشهادة) يعني: أنه يجوز للشهود القدوم على الشهادة بما انطوت عليه وصية الموصي بأن يقولوا: نحن نشهد بأنه أوصى بما انطوت عليه هذه الوصية، أي: الوثيقة، وإن لم يقرأها عليهم ولا فتح الكتاب لهم، ولو بقي الكتاب عنده إلى أن مات بشرط أن يشهدهم بما في كتاب وصيته، أو يقول لهم: أنفذوه، وبشرط أن لا يوجد في الوثيقة محو ولا تغير، وأن يعرفوا الوثيقة بعينها، كذا قرر شيخنا العدوي ".

        وقال في إعانة الطالبين: "(الكتابة كناية، أي: الوصية بالكتابة كناية، وإن كان المكتوب صريحا، (قوله: فتنعقد) أي: الوصية.

        وقوله بها: أي: الكتابة.

        وقوله مع النية: أي: نية الوصية، فإذا كتب: لزيد كذا، ونوى به الوصية صح ذلك، وكان وصية، (قوله: ولو من ناطق) غاية للانعقاد بالكتابة مع النية.

        [ ص: 216 ] (قوله: إن اعترف...إلخ) قيد للانعقاد بها من الناطق، أي: لا تنعقد بها منه إلا إن اعترف بالنية نطقا".

        وقال في الشرح الكبير: "وإن وجدت وصيته بخطه صحت".

        والأصل في ذلك:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، فأمر الله عز وجل بكتابة الدين، ومن ذلك كتابته بالوصية، فإذا ثبتت الوصية كتابة بالواجبات أكد التبرعات.

        2 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" .

        فلو كانت الوصية لا تنعقد بالكتابة لما كانت فائدة من الأمر بكتابتها، والحث عليها، وهو عام في القادر على النطق والعاجز عنه; لأن لفظ: "امرئ" نكرة في سياق النفي فتعم.

        3 - ما سيأتي من آثار الصحابة رضي الله عنهم.

        وشذ بعض المالكية فقال ببطلان الوصية الشفوية إذا طال عليها الزمان; لعدم الكتابة.

        والصواب: قبولها مطلقا.

        وحجته: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.

        أما الكتاب: فقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم [ ص: 217 ] الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ، وقوله تعالى: فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه

        فاكتفى في الآية الأولى بالإشهاد، ولم يشترط كتابة، كما اكتفى في الثانية بمجرد سماع الوصية ولم يشترط كتابتها، وتوعد على تبديلها بعد سماعها، وذلك دليل على وجوب تنفيذها بمجرد سماعها، ولأن التوعد على التبديل يدل على تحريمه، والنهي عن الشيء أمر بضده أو يتضمنه، كما يقول الأصوليون.

        وأما السنة: فعموم الأدلة الدالة على وجوب العمل بشهادة البينة.

        وأما الإجماع: فقد نص عليه القرطبي ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر وأقره.

        وأما القياس: فقياس الوصية على غيرها من العقود، فإنه لا يشترط كتابتها، وتقبل فيها البينة الشفوية وإن طال الزمان، والوصية مثلها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية