الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث العاشر: الشرط العاشر: كون الموصى له قريبا للموصي

        اختلف الفقهاء في اشتراط القرابة للموصي في الموصى له، وعدم اشتراطه على أقوال:

        القول الأول: أنه لا يشترط كون الموصى له قريبا للموصي.

        وهو قول جمهور أهل العلم.

        إلا أنه يستحب عندهم أن يوصي لقرابته; لإطلاق قوله تعالى: وآتى المال على حبه ذوي القربى ، وقوله: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل فإنه يشمل الإيتاء في حال الحياة على وجه الصدقة، والإيتاء بعد الممات على وجه الوصية، كما يشمل الغني والفقير،

        ولما روى البخاري ومسلم من طريق عمرو بن الحارث ، عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة" .

        [ ص: 573 ] القول الثاني: لا تجوز الوصية لأجنبي غير قريب ، واعتبروا القرابة شرطا في صحة الوصية.

        وبه قال طاووس ، والحسن ، والضحاك ، ثم اختلفوا:

        فقال الضحاك : ترد ولو بنيت بها الدور، أو اتخذت بها الأموال.

        وقال طاوس : تنزع من الأجنبي وتعطى للقرابة.

        وقال الحسن : يترك للموصى له ثلث الثلث ولقرابته ثلثا الثلث.

        القول الثالث: تصح الوصية لأجنبي إذا أوصى لثلاثة من أقاربه فأكثر .

        وبه قال ابن حزم ، ونحوه للحسن .

        قال ابن حزم : "فإن أوصى لثلاثة من أقاربه المذكورين أجزأه، والأقربون هم من يجتمعون مع الميت في الأب الذي به يعرف إذا نسب، ومن جهة أمه كذلك أيضا هو من يجتمع مع أمه في الأب الذي يعرف بالنسبة إليه; لأن هؤلاء في اللغة أقارب، ولا يجوز أن يوقع على غير هؤلاء اسم أقارب بلا برهان".

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        1 - قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين ، فهذا مطلق، والمطلق محمول على إطلاقه حتى يرد ما يقيده.

        2 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" ، فإنه يدل بمفهومه على صحتها لغير وارث، وهو عام في القريب والأجنبي; لقاعدة عموم المخالفة.

        [ ص: 574 ] ومن جهة أخرى، فإن العلة في منعها لوارث هي كونه وارثا، كما يؤخذ من ترتيب الحكم على المشتق، والحكم يدور مع العلة، فإذا لم يكن وارثا جازت الوصية له.

        3 - ما رواه مسلم من طريق أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة" فهذه وصية لأجانب; لأن الرقيق كانوا من غير أقارب الموصي.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أنه منسوخ.

        الوجه الثاني: أنه ليس فيه بيان أنه كان بعد نزول آية الوصية، ويحتمل أن يكون الرجل الذي أوصى بعتق رقيقه لم يكن له قرابة، وليس في الحديث ما يدل على أنه كان صليبة في الأنصار، له قرابة لا يرثونه.

        وأجيب: بأنه ليس في الحديث ما يدل على أنه كان حليفا، كما أنه ليس فيه ما يدل على أنه كان قبل نزول آية الوصية، وإذا كان نسخ القرآن لا يثبت بالشك، فإن نسخ هذا الحديث لا يثبت بالشك أيضا، فلماذا جزم بنسخ الحديث لآية الوصية، وأحال العكس مع وجود الشك فيهما، على أنه يمكن دعوى الجزم بتأخر حديث عمران عن آية الوصية، فيكون ناسخا; لما يلي:

        أن آية المواريث نزلت بعد الوصية.

        فروى البخاري من طريق عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر [ ص: 575 ] مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع" .

        فدل هذا على أن آية المواريث نزلت بعد الوصية.

        كما أن حديث سعد في منع الوصية بأكثر من الثلث إنما كان في حجة الوداع على الصحيح، وكانت آية الفرائض نزلت قبل ذلك قطعا، وهذا يرجح أن حديث عمران كان بعد الوصية، فيكون هو الناسخ لها، دون العكس، كما أن عمران لم يسلم إلا في السنة السابعة، وآية الوصية نزلت قبل ذلك.

        والمتبادر أن عمران شهد قصة الذي أعتق، فتكون متأخرة عن آية الوصية، واحتمال أن تكون وقعت في أول الإسلام قبل نزول آية الوصية، كما يراه ابن حزم ، ورواها عمران عمن حضرها احتمال بعيد، يلزم عليه أن يكون الحديث مرسل صحابي، كما يرده أنها لو وقعت في أول الإسلام قبل الوصية لما سأل جابر عن الوصية لإخوته بالنصف، ولما سأل سعد عن الوصية بماله كله، أو ثلثه أو نصفه; لأن القصة كانت ستكون مشتهرة بين الصحابة، وحضروها أو سمعوها، فلا داعي للسؤال بعدها عن الوصية بأكثر من الثلث.

        4 - حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين عاده النبي صلى الله عليه وسلم وسأله الوصية بجميع ماله، أو ثلثيه، أو نصفه، فدل ذلك على صحة الوصية للأجنبي دون القريب.

        5 - وصية المخيرق لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بحائطه.

        [ ص: 576 ] 6 - وصية البراء بن معرور له صلى الله عليه وسلم بثلث ماله.

        فهذه الوصايا كلها لغير قرابة الموصي.

        7 - ما رواه الحسن : "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف لكل امرأة منهن" .

        (منقطع; الحسن لم يسمع من عمر ).

        8 - أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين، بيعت بأربعمائة ألف .

        9 - عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها، فوجدت في مصحف عائشة رضي الله عنها: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين " .

        10 - ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا ابن علية ، عن سلمة بن علقمة ، عن الحسن أن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أوصى لأمهات أولاده" .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه ليس في هذه الأخبار أن هؤلاء لم يوصوا.

        أجيب: أن احتمال العكس أقرب، فإنهم لو أوصوا لقرابتهم لرواها الذين رووا وصاياهم لغيرهم من الأجانب، ولا داعي لأن يروي الرواة بعض الوصايا، ويكتموا الآخر أو يسكتوا عنه.

        11 - وذكر ابن عبد البر في التمهيد: "ذكر حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر في رجل أوصى بثلثه في غير قرابته [ ص: 577 ] قال: "يمضى حين أوصى ، وذكر حماد بن سلمة أيضا عن حميد الطويل أن ثمامة بن عبد الله كتب إلى جابر يسأله، عن رجل أوصى بثلثه في غير قرابته، فكتب جابر أن أمضه كما قال، وإن أمر بثلثه أن يلقى في البحر، قال حميد ، وقال محمد بن سيرين : أما في البحر فلا، ولكن يمضي" .

        دليل القول الثاني:

        استدل لهذا الرأي: بقوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف فإن تعريف الوصية يفيد الحصر، أي: لا وصية إلا للوالدين والأقربين؛ عملا بقاعدة تعريف المبتدأ بلام الجنس يفيد حصره في الخبر، نحو: العزة لله ورسوله وللمؤمنين.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: على تسليم ذلك، فإن الأدلة الأخرى تدل على مشروعية الوصية للأجانب.

        الوجه الثاني: أن هذا الاستدلال مبني على إعراب الوصية مبتدأ، وخبره "للوالدين"، ونائب فاعل "كتب" مقدرا، أي: كتب عليكم الإيصاء، وهو أحد احتمالين في إعرابها.

        والاحتمال الثاني: أن الوصية هي نائب فاعل "كتب"، أي: كتب عليكم الوصية، وسوغ حذف التاء من الفعل أمران:

        طول الفاصل بين الفعل ونائبه، وكون التأنيث في الوصية مجازيا.

        وهذا الاحتمال أرجح من الأول؛ عملا بقاعدة: أنه لا ينوب المصدر مع وجود المفعول به.

        [ ص: 578 ] دليل القول الثالث:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، فإنها تدل على وجوب الوصية للقرابة، وإذا أوصى لمن أمر به فقد أدى الواجب، وله أن يوصي بعد ذلك لمن شاء من الأجانب.

        ونوقش هذا الاستدلال: بما تقدم بحثه من عدم وجوب الوصية للأقارب.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: أن يقال: حكم هذه المسألة كحكم مسألة الوصية للأقارب غير الوارثين، وقد تقدم بحثها.

        [ ص: 579 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية