الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: شروط وصية الذمي :

        يشترط لصحة وصية الذمي ما يلي:

        1 - أن لا تكون بمحرم، فلو أوصى الذمي لمسلم بخمر أو خنزير لم يجز; لأنهم مثل المسلمين بمقتضى عقد الذمة.

        2 - أن لا يوصي بأكثر من الثلث، أو لوارث، فإن ذلك لا ينفذ إلا بالإجازة.

        قال ابن بطال : "أراد البخاري بهذا الرد على من قال - كالحنفية -: بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، قال: ولذلك احتج بقوله [ ص: 392 ] تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله والذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من الثلث هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهي عنه".

        وقال ابن المنير : "لم يرد البخاري هذا، وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ينفذ من وصيته إلا الثلث; لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم الإسلام; لقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية".

        3 - ألا يوصي بما هو قربة عندهم خاصة.

        إذا أوصى بوصايا، وكانت تدخل في باب القربات، فهي تنقسم إلى أربعة أقسام:

        الأول: أن يوصى بما هو قربة في حقنا وحقهم، كما إذا أوصى أن يسرج في بيت المقدس، أو أوصى بثلث ماله أن يتصدق به على فقراء المسلمين، أو على فقراء أهل الذمة، ونحو ذلك، جاز بالاتفاق سواء كانت الوصية لقوم معينين أو لا; لأنه وصية بما هو قربة حقيقة، وفي معتقدهم أيضا.

        الثاني: أن يوصي بما لا يكون قربة لا في حقنا ولا في حقهم، كما إذا أوصى للنائحات والمغنيات ، فإن هذا غير جائز اتفاقا; لأن هذا معصية في حقنا وحقهم.

        الثالث: أن يوصي بما هو قربة عند المسلمين، وليس بقربة عندهم، كما لو أوصى بالحج، أو بأن يبنى مسجد للمسلمين، فللعلماء في ذلك قولان:

        [ ص: 393 ] القول الأول: صحة الوصية.

        وهو قول جمهور أهل العلم.

        وحجتهم: أن الموصي به قربة عند المسلمين، فتشمله أدلة مشروعية الوصية.

        القول الثاني: بطلان هذه الوصية، إلا أن تكون لقوم بأعيانهم، فتصح، وما ذكر من الجهة خرج على طريق المشورة حتى لا يلزم أن يصرف فيها.

        وهو قول الحنفية .

        وحجتهم:

        1 - أنه معصية عندهم، فبطلت اعتبارا باعتقادهم.

        2 - أنها تصح إذا كانت لأقوام بأعيانهم; لأنه على سبيل التمليك لهم، ولأنهم معلومون يحصى عددهم.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم; لقوة دليلهم.

        الرابع: أن يوصي بما هو قربة عندهم وليس قربة عند المسلمين، كما لو أوصى بكتب التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السماوية المحرفة، أو بعمارة كنيسة، ونحو ذلك، فللعلماء في ذلك قولان:

        القول الأول: أن هذه الوصية لا تجوز.

        وهو قول الجمهور.

        وفي شرح الخرشي : "وكذلك بيع التوراة والإنجيل من أهل الكتاب; [ ص: 394 ] لأنهما منسوخان مع أنهم بدلوهما وغيروهما (قوله: يحرم على المالك) أي: مسلما أو كافرا; لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وعوقب إن لم يعذر بجهل، ومثل البيع الهبة والصدقة".

        القول الثاني: صحة هذه الوصية.

        وبه قال أبو حنيفة ، وهو رواية عن الإمام مالك - في التوراة والإنجيل -، وبه قال ابن القاسم وأشهب من المالكية ، ورواية عند الحنابلة .

        وفي مواهب الجليل: "وروى ابن وهب عن مالك في المجموعة جواز وصية الكافر بها، وبه قال ابن القاسم وأشهب ، فإن قلنا بأنها مال، وجوزنا بيعها على أحد القولين، فالجواز وإلا فلا".

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - قوله تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا

        الأدلة:

        وجه الدلالة: أن الله تعالى ذكر تبديلهم وتغييرهم لهذه الكتب، وعليه فلا يجوز الاشتغال بها؛ لما فيها من التحريف والكذب.

        2 - قوله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان

        [ ص: 395 ] وجه الدلالة: أن في الوصية لهذه الأشياء إعانة على المعصية; إذ هو إعانة على الكفر بالله.

        3 - أن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه والوصية له; فلا يصح من الذمي.

        2 - أنهم مخاطبون بفروع الشريعة.

        أدلة القول الثاني:

        استدل لهذا القول أن الذمي أوصى بما هو جائز له فعله في شرعه; لأننا أمرنا بتركهم وما يدينون.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنهم يقرون على ما يعتقدون، وتمضي أحكامهم على ما يدينون إذا لم يتحاكموا إلى شرعنا، فإن تحاكموا إلى شرعنا وجب الحكم بما في شرعنا; لقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله

        الترجيح:

        ترجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة دليله، وضعف دليل القول الثاني بمناقشته.

        * * *

        [ ص: 396 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية