الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: وصية الصبي المميز :

        وفيها أمور:

        الأمر الأول: حكم وصيته:

        اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم وصية المميز على قولين:

        القول الأول: صحة وصية الصبي المميز إذا وافقت وجه الصواب.

        وهذا مذهب المالكية وقول عند الشافعية رجحه جمع منهم، وهو المذهب عند الحنابلة .

        وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وعطاء ، وشريح ، والشعبي ، والنخعي .

        القول الثاني: عدم صحة وصية الصبي المميز.

        [ ص: 269 ] وهو مذهب الحنفية ، وقول الشافعية وهو الصحيح من مذهبهم، ورواية عند الحنابلة ، وبه قال الظاهرية ، ومجاهد ، والحسن البصري .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (الصحة):

        استدل القائلون بصحة وصية الصبي المميز إذا وافقت وجه الحق بالأدلة الآتية:

        1 - عموم الأدلة الدالة على الحث على فعل الخير - والوصية من فعل الخير - كقوله تعالى: وافعلوا الخير وقوله: فاستبقوا الخيرات وقوله: من بعد وصية يوصى بها أو دين

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن من لم يبلغ غير مخاطب بشيء من الشرائع لا بفرض ولا بتحريم ولا بندب، ولا داخل في هذا الخطاب، لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول أعماله التي هي أعمال البر ببدنه دون أن يلزمه ذلك.

        وأجيب: بأن القول بعدم مخاطبة الصغير غير مسلم، فالصحيح عند [ ص: 270 ] الأصوليين أنه مخاطب على جهة الندب في المأمورات، والكراهة في المنهيات، والجواز في المباحات.

        فقد خاطب الله الصغار في آية الاستئذان بالمندوب والمباح، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ، فهذا أمر للذين لم يبلغوا الحلم بالاستئذان في الأوقات الثلاثة على جهة الندب، وإباحة تركه في غيرها.

        كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب الصغار بأحكام الشريعة، فقد عاد يهوديا صغيرا كان يخدمه:

        (115) فروى البخاري من طريق ثابت ، عن أنس رضي الله عنه قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم ، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" .

        (116) وروى البخاري ومسلم من طريق وهب بن كيسان أنه سمع عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنه يقول: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" فما زالت تلك طعمتي بعد .

        (117) 2 - ما رواه مسلم من طريق كريب مولى ابن عباس ، عن ابن [ ص: 271 ] عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء، فقال: "من القوم؟" قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله"، فرفعت إليه امرأة صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر" .

        (118) 3 - ما رواه أبو داود من طريق سوار أبي حمزة - قال أبو داود : وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" .

        [ ص: 272 ] وجه الدلالة: دل هذان الحديثان على صحة الصلاة والحج من الصبي، وهي من أركان الإسلام فكذلك الوصية; إذ الصحة تقتضي الخطاب; لأنها موافقة للإذن الشرعي في الإقدام على الفعل كما يقول الأصوليون.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن قياس الوصية بالمال على الصدقة بالمال في الحياة من الصغير أولى من قياس الوصية على الصلاة، والصيام، والحج.

        ثم إن حث من لم يبلغ على الصلاة والصيام لا يعني إطلاقه على التقرب بالمال والصدقة به، لا في حياته، ولا في وصيته بعد وفاته.

        (119) 4 - ما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه أن عمرو بن سليم الزرقي أنه أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب : إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام ، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلا ابنة عم له. قال عمر بن الخطاب : فليوص لها. قال: فأوصى لها بمال يقال له: بئر جشم .

        قال عمرو بن سليم : فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم، وابنة عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم ".

        [ ص: 273 ] ونوقش الاستدلال بهذا الأثر من ثلاثة أوجه:

        الوجه الأول: أن الأثر منقطع; لأن عمرو بن سليم الزرقي لم يدرك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قاله البيهقي .

        وأجيب على هذا الوجه من المناقشة بجوابين:

        الجواب الأول: أنه أثبت سماعه من عمر الحافظ أبو جعفر الطحاوي كما في مشكل الآثار، وابن التركماني ، والبيهقي وإن نفى سماع عمرو لعمر إلا أنه في المعرفة والسنن قوى هذا الأثر، قال: "وهذا وإن كان مرسلا من جهة أن عمرو بن سليم الزرقي لم يدرك أيام عمر ففيه قوة من حيث إنها كانت أم عمرو ، والغالب أنه أخذه عن أمه التي وقعت الوصية لها".

        والظاهر: والعلم عند الله تعالى صحة سماع عمرو لعمر رضي الله عنه; وذلك لما يلي:

        أ - ما قاله ابن حبان رحمه الله في ثقاته: وقيل: إنه راهق الحلم يوم قتل عمر رضي الله عنه.

        [ ص: 274 ] ب - أن هناك أخبارا تدل على سماعه من عمر رضى الله عنه منها ما رواه أبو داود في الزهد، والطحاوي في مشكل الآثار من طريق الليث وهو ابن سعد عن يحيى بن سعيد ، عن النعمان بن مرة الزرقي : "أنه رأى عمر بن الخطاب بالهاجرة يريد أرضا له في الحرة فتبعته فتماشينا، فلقي علي بن أبي طالب يحمل عيدانا من عنب..." وهذا إسناد صحيح.

        الجواب الثاني: أن عمرو بن سليم هو الغساني ، وليس الزرقي كما ظن البيهقي ، وقال: إنه لم يدرك عمر .

        (120) روى عبد الرزاق من طريق أبي بكر بن حزم ، أن عمرو بن سليم الغساني "أوصى وهو ابن عشر، أو ثنتي عشرة ببئر له، قومت بثلاثين ألف، فأجاز عمر وصيته".

        الوجه الثاني: أن الغلام كان بالغا، ولكنه كان قريب العهد بالبلوغ، ومثله يسمى يافعا بطريق المجاز.

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: عدم التسليم ببلوغه، فقد جاء في رواية عبد الرزاق أنه: "ابن اثنتي عشرة سنة"، وفي رواية مالك (لم يحتلم).

        الثاني: أن اليافع حقيقة في الغلام الذي لم يحتلم، قال ابن الأثير : "أيفع الغلام فهو يافع: إذا شارف الاحتلام ولما يحتلم، وهو من نوادر [ ص: 275 ] الأبنية"، وإطلاقه على البالغ باعتبار ما كان عليه مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز، واللفظ يجب حمله على حقيقته.

        الوجه الثالث: أن الوصية كانت بتجهيزه ودفنه، وذلك جائز.

        وأجيب: بما جاء في رواية مالك : "أن وصيته كانت بحديقة بيعت بثلاثين درهم"، فهل هذا كان كله لتجهيزه؟.

        (121) 5 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق الزهري أن عثمان رضي الله عنه: "أجاز وصية ابن إحدى عشرة سنة" .

        (122) 6 - وقال الإمام مالك : "وأخبرني رجال من أهل العلم عن عبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب وغيرهم من أهل العلم، مثله.

        وقال عبد الله بن مسعود : من أصاب وجه الحق أجزناه" .

        7 - أن الوصية تصرف محض نفعا للصبي، فصح منه كالإسلام والصلاة; وذلك لأن الوصية صدقة لا تزيل الملك في الحال، وتفيد الثواب بعد الموت، فلا يلحق الصبي بسببها ضرر في عاجل دنياه، ولا آجل أخراه.

        ونوقش هذا الدليل بأمرين:

        الأمر الأول: أن حصول الثواب بعد الموت لا يقتصر على الوصية فقط، بل يحرز الثواب بترك المال للورثة.

        [ ص: 276 ] لما رواه البخاري من طريق شقيق ، عن عمرو بن الحارث ، عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنها، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم، لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" .

        وأجيب: بعدم تضمنه ما يمنع من صحة وصية الصبي، وإنما أفاد أفضلية ترك الوصية على إنشائها أو تساويهما في الثواب.

        الأمر الثاني: لو سلمنا بأن الثواب يحصل بإنشاء الوصية، فالمعتبر في النفع والضرر أصل الوضع دون العوارض اللاحقة، وبتأمل حال الوصية نجد أنها في أصل الوضع مزيلة للملك، وقد يقع النفع فيها في بعض الأحوال، وقد لا يكون فيها نفع كأن يوصي لفاسق بالمال في الفسق.

        فالمعتبر إذا في النفع والضرر هو النظر إلى أصل الوضع، كالطلاق، فإن الصبي لا يملكه وإن أمكن أن يكون نافعا في بعض الأحوال، بأن يطلق امرأة معسرة شوهاء، ويتزوج بأختها الموسرة الحسناء.

        وأجيب: بأن الوصية نوع من التصرف، مضبوط من حيث الضرر والنفع; لذا فلا يصح قياسها على الطلاق ونحوه; لعدم انضباطه في ذلك.

        ثم إن وصف الوصية بأنها مزيلة للملك لا يلحق الضرر بالصبي; لأن المال يبقى ملكا له، ولا يخرج عنه إلا بالموت، وحينئذ فلا يلحقه ضرر بخروجه.

        8 - إجماع أهل المدينة على صحة وصية الصبي.

        [ ص: 277 ] ونوقش: أن إجماع أهل المدينة مختلف فيه.

        9 - أن الحجر عليه إنما كان لحظ نفسه، فلو منعناه الوصية كان الحجر عليه لحظ غيره.

        10 - أن الوصية أخت الميراث، والصبي في الإرث عنه بعد موته كالبالغ، فكذا في الوصية).

        11 - أن الوصية شرعت لإحراز الأجر والثواب في الآخرة، وصلة الرحم، والصدقة عليهم، ومكافأة من أسدى إلى الموصي معروفا لم يتمكن من رده في الدنيا، وهذا يكون في حق الصبي.

        12 - قياس الصبي على السفيه بجامع أن كلا منهما محجور عليه، فتصح الوصية من الصبي كما تصح من السفيه.

        أدلة القول الثاني:

        استدل القائلون بعدم صحة وصية الصبي المميز بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وجه الاستدلال من الآيتين: دلت الآيتان صراحة على أن الصبي ممنوع من ماله حتى يبلغ، فصح أنه لا يجوز له حكم في ماله أصلا، وتخصيص الوصية في ذلك خطأ.

        [ ص: 278 ] ونوقش هذا الاستدلال من الآية: بأن الغرض من منع الصبي من التصرف في ماله هو الخوف من ضياعه، ومن ثم يندم بعدما يبلغ، والوصية ليست مشتملة على هذا المعنى; لأنها لا تنفذ إلا بعد الموت، وللصبي الحق في استدراكها والرجوع فيها بعد بلوغه.

        لذا فالحكم في الوصية مختلف عن سائر عقود المعاوضات والتبرعات.

        2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: "رفع القلم عن ثلاثة..." ، فذكر فيهم الصبي حتى يبلغ.

        فصح أنه غير مخاطب بما جاءت به النصوص من الترغيب بالوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن المراد بالقلم التكليف، وما نحن فيه ليس منه.

        فالحديث من باب دلالة الاقتضاء لتوقف صحته على إضمار، والصحيح عند الأصوليين : أن المضمر الإثم والمؤاخذة، وهما خاصان بالواجب والحرام دون المندوب.

        (123) 3 - ما رواه عبد الرزاق من طريق الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا تجوز وصية الغلام حتى يحتلم" .

        4 - أن الصبي المميز لا يعتد بعبارته; لذا فلا تصح وصيته.

        [ ص: 279 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا تعميم لا يسلم به، فالصبي المميز تصح عبارته في أنواع من العقود بشروط، كقبول الهبة والبيع والإجارة ونحوها، ومن ذلك الوصية إذا وافقت وجه الحق.

        5 - أن قوله غير ملزم في الطلاق والعتاق كالطفل والمجنون، وفي تصحيح وصيته قول بإلزام إقراره وقوله.

        6 - أن الوصية تبرع بالمال، فلا يصح من الصبي; لأنه ليس من أهله كالهبة والعتق.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الأول: بأنه قياس مع الفارق، فالهبة والعتق ينفذان في الحياة فيلحق الضرر بماله، وكذا الطلاق، أما الوصية فلا تنفذ إلا بعد الموت، وحينئذ فلا يلحقه الضرر، ثم إن له الحق في إلغائها أو تبديلها بعد البلوغ.

        الثاني: أن هذه الأقيسة معارضة بمثلها كما في أدلة الجمهور.

        7 - أن الحكمة من مشروعية الوصية تدارك ما عساه أن يكون قد فات المكلف في حياته، وهي منفية في حق الصغير.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن الحكمة غير محصورة فيما ذكر من استدراك ما فات الموصي، فإن حكما أخرى كالزيادة في الأجر، والإحسان لمن يريد الإحسان إليه من قرابته.

        الثاني: أنه لا يلزم من انتفاء الحكمة انتفاء الحكم كما يقول الأصوليون.

        [ ص: 280 ] الترجيح:

        ترجح لي - والله أعلم - القول بصحة وصية الصبي المميز إذا وافقت وجه الصواب; وذلك لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول، ولأن المعنى الذي لأجله منعت عقود الصبي غير موجود في إمضاء وصيته; لأن العقود لا يقدر على استدراكها إذا بلغ، أما الوصية فإن مات فله ثوابها، وإن عاش وبلغ قدر على استدراكها والرجوع فيها ; لأن المال لا يخرج عن ملكه إلا بالموت، والله أعلم.

        الأمر الثاني: شروط صحة وصيته عند القائلين بها:

        الشرط الأول: السن الذي تصح فيه وصيته .

        السن التي تصح فيها وصيته للعلماء أقوال: فقيل: إذا بلغ سبع سنين صحت وصيته.

        وهو قول الحنابلة .

        وقيل: إذا بلغ عشر سنين.

        وهو قول لمالك ، ورواية عن الإمام أحمد .

        قال إسحاق بن راهويه : إذا بلغ اثنتي عشرة سنة.

        وقيل: متى عقل وميز صحت وصيته من غير تحديد بسن معينة.

        وبه قال مالك ، وهو المعتمد عند المالكية ، وبعض الحنابلة .

        [ ص: 281 ] الأدلة:

        دليل من حده بسبع سنوات:

        1 - حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم..." .

        والأمر بالشيء يستلزم صحة المأمور به كما يقول الأصوليون، وإذا صحت صلاته وهو ابن سبع صحت وصيته; لأن كلا منهما قربة.

        2 - ولأنه يخير بين أبويه إذا بلغ سبعا، ويصح إسلامه.

        ودليل من رأى التحديد بعشر:

        1 - أنها السن التي تتأكد فيها الصلاة في حقه، ويضرب عليها.

        2 - ما تقدم من أن الغلام الذي أجاز عمر وصيته كان ابن عشر أو اثنتي عشرة سنة، فأخذ بأقل عدد.

        ودليل من حددها باثنتي عشرة سنة:

        ما تقدم من أثر عمرو بن سليم ، ولأنه أخذ بالأعلى، ومظنة لحصول التمييز التام.

        ودليل من حددها بالتمييز:

        أنه أناط به الحكم، وهو يختلف باختلاف الأطفال، ولا يصح ضبطه بسن معينة، فمتى كان مميزا صحت وصيته، كالبالغ، ومتى كان غير مميز ردت وصيته، كالمجنون، من غير تحديد بعشر، أو سبع، أو تسع أو أكثر.

        وهذا أقرب; لأن علة الصحة التمييز، وعلة البطلان عدمه، والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.

        [ ص: 282 ] الشرط الثاني: مقدار ما تصح فيه وصيته :

        اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

        القول الأول: أنها فيما قارب الثلث، ولا تجوز بالثلث.

        وبه قال عمر بن عبد العزيز .

        وقال الحنفية : تجوز وصيته بتجهيزه ودفنه، وعلى ذلك حملوا أثر عمر في إجازته وصية الصغير الذي لم يحتلم.

        وقال المالكية ، والحنابلة : صحة وصيته بالثلث كاملا كغيره، ورواه مالك في المدونة عن عمر بن عبد العزيز ، قال: "وأخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز أجاز وصية غلام في ثلثه ابن ثلاث عشرة سنة" ; لعموم الأدلة وتحديدها في الثلث، فإنها تشمل الصغير والكبير، وتفرقة الحنفية بين الوصية بالتجهيز والدفن والوصية بغيرهما لا دليل عليها، وما ادعوه من حمل أثر عمر على ذلك سبق رده، بما جاء في رواية الموطأ (من أنه أوصى بحديقة بيعت بثلاثين ألف درهم)، وهو مبلغ أكثر من نفقة التجهيز بكثير، على أن الوصية كانت بالحديقة لابنة عمه ملكا ولم تكن بيعا لتجهيزه.

        الشرط الثالث: ما تصح فيه وصيته .

        اشترط الحنفية والمالكية : أن تكون وصيته في قربة.

        وقول الحنابلة : أنه لا يشترط ذلك إذا لم تكن بمعصية.

        [ ص: 283 ] والخلاف مبني على خلاف آخر، هل تشترط القربة في من حيث هي، أو لا تشترط؟ سيأتي في شروط الموصى به.

        الأمر الثالث: اختلاف الورثة والموصى له في التمييز وعدمه :

        وفيه فرعان:

        الفرع الأول: أن لا تكون بينة لواحد منهما، ففي هذه الحال القول قول الورثة.

        وقيل: القول للموصى له.

        حجة من قال: القول قول الورثة: أن الأصل في الإنسان عدم التمييز، كما قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا والأصل بقاء ما كان على ما كان.

        وحجة القول الثاني: أن الأصل في العقود الصحة، فمن راعى الأصل الثاني جعل القول للموصى له.

        والأقرب القول الثاني ; لأنه مثبت، ولأنه يتوسع في الوصية ما لا يتوسع في غيرها من العقود.

        الفرع الثاني: عند تعارض البينات تقدم بينة الموصى له; لأنها مثبتة وناقلة.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية