الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: شروط الإجازة :

        يشترط في لزوم الإجازة للورثة ستة شروط بين متفق عليه ومختلف فيه:

        الشرط الأول: أن تكون بعد الموت، أو في المرض المخوف، وهو شرط مختلف فيه كما سبق.

        الشرط الثاني: أن يموت الموصي في مرضه الذي وقعت فيه الإجازة عند القائلين بلزوم الإجازة في مرض الموت، فإن صح من مرضه بعد إجازتهم، ثم مات من مرض آخر لم تلزمهم الإجازة السابقة; لاستغنائه عنها بصحته وقدرته على التصرف بعد الصحة، فلم يبق له عذر، إلا أنهم يحلفون أنهم ما سكتوا رضا بالوصية على قول.

        وقيل: لا يحلفون.

        الشرط الثالث: أن لا يكون لهم عذر في الإجازة، وإلا لم تلزمهم، مثل أن يكون المجيز في نفقة الموصي يخشى قطعها عنه إذا لم يجز، كانت النفقة واجبة، أو تطوعا، أو يكون عليه دين للموصي يخشى مطالبته به، وحبسه إذا لم يجز ، أو يكون الموصي ذا سلطان وجاه يخشى بطشه به إذا لم يجز.

        ولعل ذلك يجري فيما لو كان الوارث في نفقة الموصى له، أو له عليه دين، أو يخشى بطشه إذا لم يجز; لأنه لا فرق بين الخوف من الموصي، والخوف من الموصى له، وربما كان الخوف من الموصى له أولى; لبقائه بعد وفاة الموصي.

        ولا يعتبر عذرا رجاء المجيز موافقة الوارث الموصى له على إعطائه شيئا، أو مكافأة على الإجازة، فإذا لم يكافئه لم يكن له رجوع.

        الشرط الرابع: أن يكون المجيز عالما أن له الحق في الإجازة والرد، [ ص: 552 ] وعالما بأن الإجازة تلزمه، وإلا لم تلزمه في الحالتين، فإن ادعى أنه كان يظن أن الوصية لازمة له، ولا خيار له في الرد، فإن الإجازة لا تلزمه، إذا كان مثله يجهل ذلك، ويحلف يمينا بالله أنه لا يعلم أن له الحق في رد الوصية، كما أنه إذا أجاز الوصية، ثم قال: كنت أجهل أن الإجازة تلزمني فإنه يحلف على ما يقول، ولا تلزمه الإجازة.

        الشرط الخامس: أن لا يظن أن ما أجازه يسيرا.

        إذا ادعى ظنه أن ما أجازه كان قليلا، فبان كثيرا:

        ففيه أمران:

        الأمر الأول: أن تكون الوصية بالمشاع:

        الرجوع في الوصية بالمشاع لمن أجازه من الورثة، وهو يظنه قليلا، فبان خلافه :

        إذا أجاز الوارث ما زاد على الثلث، ثم قال: أجزت لأنني ظننت أن المال قليل، وأن ثلثه قليل وقد بان أنه كثير، فقد اختلف في رجوعه على قولين:

        القول الأول: أن الإجازة تلزم فيما ظنه، والقول فيما لم يظنه مع يمينه، فإذا حلف لم تلزمه الإجازة فيما زاد على ظنه إلا أن يكون المال ظاهرا لا يخفى، أو تقوم بينة بعلمه بقدره.

        وبه قال المالكية ، والشافعية ، وهو المذهب عند الحنابلة .

        القول الثاني: أنه لا يملك الرجوع في الجميع

        [ ص: 553 ] وهو وجه للحنابلة .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:

        1 - أن الغالب أن المجيز إنما يترك الاعتراض للموصى له في الوصية; لأنه لا يرى المناعة في ذلك القدر ويستحقه، فإذا ادعى أنه إنما أجاز لظنه قلة المال كان الظاهر معه فصدق مع يمينه، لأنه يحتمل الكذب.

        2 - أن ثبوت الرجوع فيه - إذا تبين فيه ضرر على المجيز لم يعلم - استدراك لظلامته قياسا على من أسقط شفعته لمعنى، ثم بان بخلافه فإن له العود إليها، فكذلك إذا أجاز الموصي به يظنه قليلا فبان كثيرا، فله الرجوع بما زاد على ظنه.

        3 - أنه إذا اعتقد أن النصف الموصى له مثلا مائة وخمسون ريالا ثم بان أنه ألف ريال، فهو إنما أجاز خمسين ريالا، لم يجز أكثر منها، فلا يجوز أكثر منها، فلا تنفذ إجازته في غيرها.

        أدلة القول الثاني:

        استدل أصحاب هذا القول: بأن الوارث أجاز عقدا له الخيار في فسخه فبطل خياره، كما لو أجاز البيع من له الخيار في فسخه بعيب أو خيار.

        ويناقش: بأن هذا قياس مع الفارق; لأن الإجازة هنا مبنية على ظن [ ص: 554 ] خاطئ نشأ من أجل ترك المنازعة في الشيء اليسير الذي قد لا يستحق المنازعة، فإذا تبين أن المتروك من أجله المنازعة شيء كبير، فإن الأمر فيه يختلف حيث سيبطله ولو أدى إلى المنازعة; لأن الإنسان قد يترك اليسير ولا يترك الكثير، بخلاف الإجازة في البيع; لأن البيع لا يصح إلا مع الرؤية أو ما يقوم مقامها من الوصف، فإذا أجاز بعد الرؤية أو الوصف القائم مقامها، فإنه يكون قاصدا لهذه الإجازة مع علمه بما يترتب عليها.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: هو القول الأول; لقوة أدلته وقيامها على رفع الضرر عن المجيز من غير إضرار بالموصى له؛ حيث حصل له ما كان يظنه المجيز - وهو زائد على الثلث، في مقابل ضعف دليل القول الثاني لمراعاته الموصى له دون المجيز، ولا يخفى ما في هذا من الإضرار بالمجيز - والله أعلم.

        الأمر الثاني: أن تكون الوصية بمعين.

        إذا كان الموصى به عينا كأرض أو سيارة ونحو ذلك، أو كان مبلغا مقدرا كألف ريال فأجاز الوارث، ثم ادعى ظنه يسيرا فبان كثيرا ، فللعلماء قولان:

        القول الأول: قبول قول الوارث في قيمة الموصى به ولو كان عينا، أو مبلغا مقدرا.

        وهو وجه عند الحنابلة ، أخذ به شيخ الإسلام .

        القول الثاني: عدم قبوله في ذلك.

        وهو مذهب الشافعية .

        [ ص: 555 ] وبه قال الحنابلة في أظهر الوجهين، وهو المذهب.

        الأدلة:

        الرأي الأول: (قبول قوله):

        1 - أنه قد يسمح بذلك ظنا منه أنه يبقى له من المال ما يكفيه، فإذا بان خلاف ذلك لحقه الضرر في الإجازة.

        2 - أنه لا فرق بين هذه المسألة والمسألة التي قبلها، وهي الإجازة في جزء مشاع; إذ كلتاهما فيه دعوى الجهل بما له أثر في الإجازة فيقبل قوله بيمينه.

        دليل القول الثاني: (عدم قبول قوله):

        أن ما أجازه ما دام معينا أو مقدرا فهو معلوم، فلا عذر له بعد ذلك.

        ويمكن أن يناقش: بأن علمه بالشيء الموصى به الذي أجازه لا يستلزم علمه ببقية المال؛ حيث لا يترتب على قدر بقيته أثر في الإجازة.

        الترجيح:

        يظهر - والله أعلم -: أن قبول قول الوارث في المسألتين هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإسلام ; ذلك أن التفريق بينهما غير ظاهر، والإجازة تفضل من الوارث، فينبغي ألا تعتبر إلا إذا كانت عن طيب نفس منه، وما دام قد ادعى ما يمكن قبوله، فيقبل ذلك منه بيمينه، فإن كان الأمر على غير ذلك فهو بينه وبين الله، والله أعلم.

        وعند الحنفية : إذا أجاز الوارث ما فعله مورثه في مرضه، ولم يعلم [ ص: 556 ] ما فعل، لم تلزمه الإجازة، وإن علم ما فعله من التصرفات وأجازه لزمته الإجازة.

        وألحق الشافعية الجهل بوارث آخر بالجهل بالموصى به، فإذا أجاز الوارث ثم ظهر وارث آخر، فقال المجيز: إنما أجزت لأني كنت أظن أنه لا وارث معي، وأما الآن فلا أجيز، فقالوا: لا تلزمه الإجازة; لعذره بطرو وارث آخر، وما يترتب عليه من نقصان في حصة المجيز، إلا أنه يجوز للموصى له أن يحلفه على ما يقول.

        الشرط السادس: أن يكون المجيز أهلا للتبرع بماله، وهو المكلف الذي لا حجر عليه.

        فلا تصح إجازة الصغير، والمجنون، والسفيه المولى عليه; لأنهم ليسوا أهلا للتبرع بالمال، ولا تصح إجازة وليهم عنهم عند المالكية والحنابلة ، وتبطل الوصية.

        وقال الشافعية : توقف الوصية حتى يصيروا أهلا للتبرع بالمال، فيجيزوا أو يردوا بعد ذلك.

        حجة القول الأول: أن في وقف الوصية حتى يتأهلوا ضررا عظيما بالورثة والموصى له.

        وحجة القول الثاني: أن الوصية صحيحة، ولا مسوغ لإبطالها، ولا ضرر في وقفها; لإمكان الاقتراض للمحجور، ولو من بيت المال.

        وإذا وقفت الوصية على هذا القول فإن النظر فيها يبقى للقاضي، فله [ ص: 557 ] الاحتفاظ بعينها أو بيعها، والاحتفاظ بثمنها، أو إجارتها بحسب ما يراه من المصلحة، فإذا بلغ الورثة أهلية التبرع خيروا في الإجازة والرد، فتدفع الوصية وغلتها، أو ثمنها إن بيعت للموصى له في حال الإجازة وللورثة في حال الرد.

        واختلف في السفيه المهمل، فمن أبطل تصرفه أبطل إجازته، ومن اعتبر تصرفه اعتد بإجازته.

        وأما الزوجة، والمريض فتلزمهما الإجازة في حدود ثلثهما؛ بناء على القول بالحجر على الزوجة في زائد الثلث، والزائد على الثلث يوقف على إجازة الزوج، وورثة المريض.

        وأما المفلس الذي أحاط الدين بماله ففيه خلاف، مبني على الخلاف في تكييف الإجازة، فمن رآها تنفيذا للوصية، قال: تلزمه الإجازة، ولا اعتراض للغرماء على تصرفه فيها; لأنه لم يتبرع بشيء من ماله، وإنما أجاز وصية مورثه.

        ومن رآها ابتداء عطية قال: للغرماء الحق في منعه من الإجازة، وإلزامه بالرد، كما لهم رد إجازته إذا أجازه.

        الشرط السابع: قبض الموصى به قبل حدوث المانع.

        وهذا الشرط مختلف فيه، مبني على القول بأن الإجازة ابتداء عطية؛ [ ص: 558 ] ولذلك يجب حوزها قبل موت المجيز، أو مرضه أو حدوث فلس، ومن رآها تنفيذا لا يشترط هذا الشرط.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية