الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الرابع: في وقت اعتبار الموصى له وارثا، أو غير وارث

        الوصية تمليك بعد الموت، لا يستحقها الموصى له إلا بعده، ومن هنا اتفقت المذاهب الأربعة على أن المعتبر في كون الموصى له وارث، أو غير وارث هو وقت موت الموصي، لا وقت الوصية.

        قال ابن قدامة : "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت، فلو أوصى لثلاثة إخوة له متفرقين ولا ولد له، ومات قبل أن يولد له ولد لم تصح الوصية لغير الأخ من الأب إلا بالإجازة من الورثة، وإن ولد له ابن صحت الوصية لهم جميعا من غير إجازة إذا لم تتجاوز الوصية الثلث، وإن ولدت له بنت جازت الوصية لأخيه من أبيه وأخيه من أمه، فيكون لهما ثلثا الموصى به بينهما نصفين، ولا يجوز للأخ من الأبوين; لأنه وارث، وبهذا يقول الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وغيرهم، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، ولو أوصى لهم وله ابن فمات ابنه قبل موته لم تجز الوصية لأخيه من أبويه ولا لأخيه من أمه، وجازت لأخيه من أبيه، فإن مات [ ص: 536 ] الأخ من الأبوين قبل موته لم تجز الوصية للأخ من الأب أيضا; لأنه صار وارثا".

        قال ابن حجر : "واتفقوا على اعتبار كون الموصى له وارثا بيوم الموت".

        فمن كان وارثا يوم الموت ووقته فلا وصية له، إلا أن يجيزها الورثة، ولو كان يوم الوصية غير وارث، ومن كان يوم الموت غير وارث فالوصية له صحيحة، ولو كان يوم الوصية وارثا.

        القول الثاني: أن المعتبر وقت الوصية.

        فمن كان وقت الوصية وارثا، فلا وصية له ولو صار غير وارث.

        وبه قال ابن حزم : "ولا تحل الوصية لوارث أصلا، فإن أوصى لغير وارث فصار وارثا عند موت الموصى بطلت الوصية له، فإن أوصى لوارث ثم صار غير وارث لم تجز له الوصية; لأنها إذا عقدها كانت باطلا".

        قال المرداوي : "وأكثرهم لم يحك فيه خلافا: أن الاعتبار في الوصية بحال الموت".

        قال ابن رجب : "وحكى بعضهم خلافا ضعيفا: أن الاعتبار بحال الوصية".

        وحجته:

        1 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" فإن لفظ وارث اسم [ ص: 537 ] فاعل، وهو حقيقة في حال التلبس بالفعل، ولا يكون وارثا بالفعل إلا بموت الموصي، فدل ذلك على أن العبرة بالوقت الذي يكون فيه وارثا.

        2 - ولأنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فيعتبر وقت التمليك.

        دليل القول الثاني:

        1 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" .

        وجه الدلالة: أن لفظ الوارث يكون مستعملا في الوارث حالا وقت الوصية، أو مآلا عند وفاة الموصي، فيلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه في آن واحد دون قرينة أو حاجة.

        2 - أنه لو صار عند الموت غير وارث بطلت الوصية; لأنه عقدها عقدا باطلا، فدل ذلك على أن المعتبر حال الوصية.

        ثمرة الخلاف:

        1 - من أوصى لغير وارث ثم صار وارثا كمن أوصى لأجنبية، ثم تزوجها، أو أوصت له، ثم تزوجته، أو أوصى لزوجته، أو ابنيه الكافرين ثم أسلما، أو أوصى لأخيه مع وجود ولده، ثم مات ولده، ففي هذه الحالات كلها تبطل الوصية، أو تصح وتتوقف على إجازة الورثة على الخلاف السابق في الوصية لوارث; لأن الموصى له صار وارثا يوم الموت.

        2 - من أوصى لوارث ثم صار غير وارث وقت الوصية ، من أوصى لأخيه ثم ولد له، أو أوصى لزوجته ثم طلقها، أو العكس، فإن الوصية تكون صحيحة لازمة عند الجمهور اعتبارا بوقت الموت، وباطلة عند ابن حزم.

        واختلف المالكية إذا لم يعلم الموصي أن الموصى له صار غير وارث ، [ ص: 538 ] فقال ابن القاسم : لا تصح الوصية إذا لم يعلم بتغير حال الموصى له قبل موته.

        وقال أشهب: الوصية صحيحة علم أو لم يعلم.

        ومن هنا اختلفا فيمن أوصت لزوجها ثم طلقها، ولم تعلم بذلك حتى ماتت .

        فقال ابن القاسم : الوصية باطلة، لاحتمال أنها لو علمت بطلاقها لرجعت في وصيتها; لأنها أوصت له وهو وارث، فلم تقصد الوصية له حقيقة; وهذا بخلاف ما لو علمت ولم تغير وصيتها، فإن ذلك دليل على تمسكها بوصيتها له من جهة، ولعدم عذرها بترك الرجوع فيها من جهة أخرى.

        وقال أشهب وابن القاسم أيضا: بصحتها، علمت أو لم تعلم.

        لما يلي:

        أ - عموم الحديث.

        ب - أن الصحة من خطاب الوضع، وهو لا يشترط فيه العلم.

        ج - أن المعتبر في الصحة في المعاملات موافقة الفعل للشرع في الواقع، وافق اعتقاد المكلف أو لا.

        د - أن الوصية محمولة على الجواز حتى ترد.

        3 - من تزوج امرأة في مرضه، أو مرضها المخوف، ثم أوصى لها، أو [ ص: 539 ] أوصت له ، فإن الوصية تصح عند المالكية فيهما، وباطلة عند الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .

        ومنشأ الخلاف: اختلافهم في النكاح في مرض الموت.

        فعند المالكية : يمنع عقد النكاح، فإن حصل فسخ قبل الدخول وبعده، فلا توارث فيه، فالوصية صحيحة; لأنها وصية لغير وارث، ومن رآه نكاحا صحيحا، وهو قول الجمهور قال: الوصية باطلة; لأنها وصية لوارث.

        4 - من أوصت لأجنبي، أو أوصى للأجنبية، ثم تزوجا في المرض المخوف ، وهي مثل الأولى، إلا أن الزواج هنا طارئ على الوصية، وفي التي قبلها الوصية طارئة، والحكم فيهما سواء.

        5 - من أوصى لزوجته أو أوصت له، ثم طلقها في مرض موته ، ومذهب المالكية : أن الوصية موقوفة على إجازة الورثة، بناء على أن الطلاق في المرض لا يمنع الميراث فهي وصية لوارث.

        وقال الحنابلة : ليس لها أكثر من ميراثها; لأنه يتهم على أنه طلقها ليوصل إليها ماله بالوصية، فلا ينفذ.

        6 - إذا جرح الوارث مورثه جرحا قاتلا، ثم أوصى له ، فإن الوصية تصح عند المالكية إذا كان الجرح عمدا; لأنها وصية غير وارث بخلاف الجرح الخطأ، فإنها لا تصح; لأنها وصية لوارث; لأن القتل الخطأ لا يمنع الميراث عند المالكية ، بخلاف العمد فإنه يمنعه، ولذلك فرقوا بينها.

        [ ص: 540 ] وقال الحنفية : إذا لم يكن له وارث سواه صحت الوصية له، بناء على أصلهم من جواز الوصية للوارث إذا لم يكن معه وارث.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية