الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الحادي عشر: الشرط الحادي عشر: كونه محتاجا غير غني

        اختلف العلماء في اشتراط كون الموصى له محتاجا أو غير محتاج على قولين:

        القول الأول: أنه لا يشترط.

        وبه قال أكثر الفقهاء.

        والأفضل جعلها في القرابة المحتاجين بدل الأغنياء الموسرين.

        القول الثاني: أنه لا تجوز الوصية لغني، أو ما لا يراد به القربة .

        وبه قال بعض المالكية .

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - عموم أدلة الوصايا، فإنها تشمل الغني والفقير، وغناهم لا يمنعهم عن الحق الذي جعله الله لهم.

        [ ص: 580 ] 2 - أنه صلى الله عليه وسلم أوصى له وقبل الوصية، ولم يكن فقيرا، ولا محتاجا، قال تعالى: ووجدك عائلا فأغنى

        3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء، فيقول له عمر : أعطه، يا رسول الله، أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك" قال سالم : "فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه" .

        4 - ما روى البخاري ومسلم من طريق إسحاق بن عبد الله أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:... فلما أنزلت هذه الآية، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" .

        قال ابن عبد البر : "وفيه رد على من كره أكل الصدقة التطوع للغني من غير مسألة; لأن أقارب أبي طلحة الذين قسم عليهم صدقته تلك لم يبن لنا أنهم فقراء".

        [ ص: 581 ] 5 - أن العلماء اتفقوا على جواز صرف صدقة التطوع فيهم.

        قال السرخسي : "ثم التصدق على الغني يكون قربة يستحق بها الثواب".

        قال النووي : "تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف، فيجوز دفعها إليهم، ويثاب دافعها عليها، ولكن المحتاج أفضل".

        قال ابن مفلح : "تجوز صدقة التطوع على كافر وغني وغيرهما، نص عليه، ولهم أخذها".

        دليل الرأي الثاني:

        (194) 1 - ما رواه عبد الرزاق من طريق قتادة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابتاعوا أنفسكم من ربكم أيها الناس ألا إنه ليس لامرئ شيء، ألا لا أعرفن امرأ بخيل بحق الله عليه حتى إذا حضره الموت أخذ يدعدع ماله هاهنا وهاهنا" قال: ثم يقول قتادة : ويلك يا ابن آدم كنت بخيلا ممسكا حتى إذا حضرك الموت أخذت تدعدع مالك وتفرقه، ابن آدم اتق الله، اتق الله، ولا تجمع إساءتين في مالك إساءة في الحياة، وإساءة عند الموت انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون فأوص لهم من مالك بالمعروف" .

        فعموم قوله: "الذين يحتاجون" أن الذين لا يحتاجون لا يوصي لهم، وبه يقيد عموم الوصية للوالدين والأقربين وغيرهما من الأدلة العامة، بناء على حجية مفهوم المخالفة، وصحة التخصيص له.

        [ ص: 582 ] 2 - ما رواه البخاري من طريق ثابت ، عن أنس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة : "اجعلها لفقراء أقاربك" .

        والحديث وإن ورد في الوقف، فإن الوصية مقيسة عليه، وملحقة به، فيخص عموم الأدلة بهذا القياس على القول بصحة التخصيص به عند هؤلاء.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم; لقوة دليلهم، ومناقشة دليل القول الآخر.

        [ ص: 583 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية