الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثالث: صور الوصية للوارث

        الحكمة من منع الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة : هي أن لا يتوصل الإنسان بوصيته إلى إيثار بعض الورثة، وتفضيل بعضهم على بعض، وتغيير المواريث الشرعية.

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: الوصية له مباشرة :

        وتحتها صور: الأولى: أن يوصي لبعضهم دون بعض.

        وحكم هذه تقدم، وهو عدم الجواز إلا بإجازة الورثة.

        الثانية: أن يوصي لجميع الورثة بخلاف حصصهم مثل إيصائه للزوجة بالنصف، أو تسوية الأنثى بالذكر، أو تفضيل الأنثى على الذكر، ونحو ذلك.

        وحكم هذه الصورة أنها ملغاة غير جائزة لما يلي:

        1 - مخالفة أدلة المواريث.

        2 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" .

        3 - ما تتضمنه من الوصية لوارث لمن أخذ أكثر من نصيبه المقدر شرعا [ ص: 524 ] في الميراث، وقد ألحقها الفقهاء رحمهم الله في القسم الأول، فقالوا: تصح بإجازة الورثة.

        الثالثة: أن يوصي لهم بقدر حصصهم في الإرث على وجه الشيوع ، كأن يكون له أربعة أبناء، فيقول: أوصيت لكل واحد بالربع، فهذه صحيحة; لأنه لا ظلم فيها لأحد.

        ونص الشافعية : على أنها لغو لا فائدة فيها; لأن الورثة مستحقون لها وإن لم يوص.

        الرابعة: أن يوصي لكل وارث بمعين بمقدار حقه، كمن ترك دارا وضيعة وقيمتهما سواء أو دارين متحدتي القيمة، وترك ولدين، فأوصى لأحدهما بالأرض وللآخر بالدار، أو أوصى لأحدهما بهذه الدار وللآخر بالدار الأخرى.

        اختلف فيها على قولين:

        القول الأول: أن الوصية لكل وارث بمعين بمقدار حقه لا تصح إلا بإجازة الورثة.

        وهذا القول هو الصحيح عند الشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة .

        القول الثاني: أن الوصية لكل وارث بمعين بمقدار حقه صحيحة، ولا تفتقر إلى إجازة الورثة.

        [ ص: 525 ] وهذا القول هو وجه عند الشافعية ، ووجه عند الحنابلة هو الصحيح من المذهب.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحاب القول الأول القائلون بعدم صحة الوصية لكل وارث بمعين بمقدار حقه إلا بإجازة الورثة بما يلي:

        1 - عموم حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" .

        2 - أن في الأعيان غرضا صحيحا، فكما يجوز إبطال حق الوارث من قدر حقه، فكذا لا يجوز إبطال حقه من عينه.

        3 - أن كل وارث حقه مشاع في التركة، فكيف يلزم بإفراز حقه بدون رضاه، ومن ثم يؤدي ذلك إلى التشاحن بين الورثة.

        4 - ولأن هذه قسمة فضولي على غيره; لأن الميت يزول ملكه بموته، وينتقل لورثته، فلا تصح قسمة عليهم.

        دليل القول الثاني:

        استدل أصحاب القول الثاني القائلون بصحة الوصية لكل وارث بمعين بمقدار حقه، وإن لم يجزها الورثة:

        بأن حق الوارث في القدر لا في العين; بدليل: صحة معاوضة المريض [ ص: 526 ] بعض ورثته أو أجنبيا جميع ماله بثمن مثله، ولو تضمن ذلك فوات عين جميع المال.

        ويمكن أن يناقش هذا الدليل: بعدم التسليم بأن حق الوارث في القدر لا في العين; وذلك لأن في الأعيان أغراضا صحيحة، فإذا لم يجز الورثة هذه الوصية وقلنا بتصحيحها، فقد يؤدي ذلك إلى التشاحن والتباغض فيما بين الورثة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب-: هو القول الأول القائل بأن الوصية لكل وارث بمعين بقدر لا تصح إلا بإجازة الورثة; وذلك لوجاهة ما استدلوا به وسلامته من المناقشة، وضعف دليل القول الثاني بما ورد عليه من مناقشة.

        الخامسة: أن يوصي لوارث ليس له وارث آخر غيره .

        العلماء رحمهم الله في هذه الوصية على قولين:

        القول الأول: بطلان الوصية.

        وهو قول المالكية ، والشافعية .

        وحجتهم:

        1 - عموم حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" ; لأن النكرة المنفية للعموم.

        2 - أنه إن كان يحوز الميراث فلا فائدة فيها، وإن كان لا يحوزه بطلت; [ ص: 527 ] لأن ما زاد على نصيبه لبيت المال، ولا حق للإمام في إجازة الوصية لوارث بما زاد على الثلث.

        القول الثاني: تصح وصية أحد الزوجين للآخر ولو بجميع المال.

        وهو مذهب الحنفية ، والحنابلة .

        وحجتهم: أن المنع من الوصية للوارث وبأكثر من الثلث لحق الورثة، فإذا لم يكن مع الموصى له غيره لم يكن هناك حق لأحد فتصح الوصية.

        كما أنه إذا كان الموصى له غير زوج أو زوجة، فإن الوصية لا حاجة لها; لأنه يأخذ الباقي بعد حقه إما بالرد أو بالرحم بناء على مذهبهم في توريث ذوي الأرحام، والقول بالرد عند عدم المعصب.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: أن هذا الخلاف ينبني على حكم الرد، فإذا قيل بأنه يرد على جميع الورثة حتى الزوجين وهو الأقرب جاز ذلك، وإن قيل بعدم الجواز لم يجز لما ذكره أهل القول الأول.

        السادسة: ومن الوصية للوارث وصية الأب لبعض أولاده بمثل ما أنفقه على إخوته في تزويجهم، أو تعليمهم; لأن النفقة أن يعطي كل واحد من الأولاد قدر ما يحتاجه، وعلى هذا من لا حاجة له فإنه لا يعطى، ولا تجوز الوصية له.

        وإن أسقط عن وارثه دينا، أو وصى بقضاء دينه، أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها، أو عفا عن جناية موجبها المال فهي كالوصية له، وإن عفا عن القصاص وقلنا: الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل، وإن قلنا: [ ص: 528 ] الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفا عن حد القذف سقط مطلقا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية