الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني: حكمها بعد وقوعها

        اختلف القائلون بمنع الوصية لوارث في حكمها إذا وقعت على قولين:

        القول الأول: أنها صحيحة موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها جازت، وإن ردوها ردت، وإن أجاز بعضهم دون بعض، فمن أجاز لزمته نصيبه فقط، ومن رد فلا شيء عليه.

        وبه قال جمهور الفقهاء.

        القول الثاني: الوصية باطلة، وليس للورثة إجازتها; لوقوعها باطلة، والباطل لا يقبل الإجازة.

        وهو قول بعض المالكية ، وبعض الشافعية ، وهو قول الظاهرية .

        قال ابن حزم : "ولا تحل الوصية لوارث أصلا، فإن أوصى لغير وارث فصار وارثا عند موت الموصي: بطلت الوصية له، فإن أوصى لوارث ثم صار غير وارث لم تجز له الوصية، لأنها إذ عقدها كانت باطلا، وسواء جوز الورثة ذلك أو لم يجوزوا".

        [ ص: 516 ] وسبب الخلاف شيئان:

        الأول: اختلاف الروايات، كما سيأتي.

        الثاني: الخلاف في علة النهي عن الوصية لوارث، هل هو لحق الورثة أو لحق الله؟ فمن رأى أنه لحق الورثة قال: الوصية صحيحة موقوفة على إجازتهم، فإذا أجازوها جازت; لأن الحق لهم وقد أسقطوه، ومن قال بأن المنع تعبد لحق الله قال ببطلانها، وإن أجازها الورثة; لأن الحق لله، فلا يسقط بإسقاط أحد.

        الأدلة:

        أدلة الجمهور، استدل الجمهور بما يلي:

        1 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه ...وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" .

        2 - حديث ابن عباس رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يجيز الورثة" .

        فحديث: "لا وصية لوارث" يقتضي بطلانها، أجازها الورثة أم لا; لأنه عام في جميع الوصايا وجميع الأحوال، في حين حديث ابن عباس يقتضي صحتها إذا أجازها الورثة؛ لقوله: "إلا أن يشاء الورثة" ، والاستثناء من النفي إثبات، فتكون الوصية لوارث مع الإجازة صحيحة.

        فقوله: "إلا أن يشاء الورثة" خاص، وحديث: "لا وصية لوارث" عام، والخاص مقدم على العام.

        3 - ما ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟، قال: "لا"، قال: [ ص: 517 ] قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث، قال: "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" .

        وجه الدلالة: أن المنع من الزيادة على الثلث من أجل الورثة; لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" .

        وأيضا: فإن كلمة "إن" نص ظاهر في التعليل، كما أنه ظاهر في أن المقصود بالورثة الورثة الخاصة غير بيت المال، ألا ترى إلى قول سعد : "لا يرثني إلا ابنة لي" وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ورثتك" بالإضافة للمخاطب، وإلى قوله: "يتكففون الناس"، فإن ذلك كله يدل على أن المقصود بالورثة غير بيت المال، وأن بيت المال غير وارث; لأن بيت المال لا يتكفف.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" توجيه النظر إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم من أن الثلث كثير، وأنه ينبغي للشخص أن يراعي حال ورثته، فإذا كانت حالهم تدعو إلى النقص عن الثلث لفقرهم نقص، بل إن كانت حالهم تدعو ترك المال جميعه فعل; لأن إغناءهم عند فقرهم خير من الإيصاء.

        الثاني: أنه لو سلم أن ما ذكر في حديث سعد رضي الله عنه هو علة النهي لكان للموصي أن يوصي بجميع ماله مع غنى الورثة، وأن يمنع من الوصية إذا كانوا فقراء، وهذا لم يقل به أحد.

        4 - ما رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: "لا"، فقال: فأرجعه " .

        [ ص: 518 ] وجه الدلالة: أن الشارع منع من التفاضل في الهبة بين الأولاد حال الحياة، فكذا في الوصية بعد الممات; لما في ذلك من إيقاع العداوة والبغضاء.

        5 - ما رواه مسلم من طريق أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا" .

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن له في التبرع بأكثر من الثلث لأجل الورثة.

        (188) 6 - ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لبعض أهل الكوفة : "إنكم من أحرى بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما، فلا يمنعه إذا كان كذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين" .

        [ ص: 519 ] وجه الدلالة: أن ابن مسعود رضي الله عنه يرى المنع لحق الوارث، فإذا لم يكن له وارث كان له الحق في أن يوصي ولو بماله كله في وجوه البر والخير.

        (189) 7 - وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله : "إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله : فقلت له: ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم" .

        [ ص: 520 ] 8 - أنها تصرف صدر من أهله في محله، كما لو أوصى لأجنبي فصحت.

        9 - أن المنع كان لحق الورثة لما يلحقهم من الأذى والضرر بإيثار بعضهم على بعض، فلا تصح بدون إجازتهم، وتصح مع الإجازة; لأنهم أسقطوا حقهم برضاهم فزال المانع.

        10 - أنه لا حق لأحد فيه، فلصاحبه أن يضعه حيث شاء، وإذا كان للإمام أن يضعه بعد موته حيث شاء، فكذلك لصاحبه من باب أولى، لكن لا بد من إجازة الورثة كما سبق.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق; إذ الإمام قد أذن له في التصرف، وأما الميت فلم يأذن الله له إلا في الثلث فأقل لغير وارث.

        11 - أن حق الورثة تعلق بماله لانعقاد سبب الزوال إليهم، وهو استغناؤه عن المال، إلا أن الشرع لم يظهر في حق الأجانب بقدر الثلث ليتدارك تقصيره، وأظهره في حق الورثة; لأن الظاهر أنه لا يتصدق عليهم تحرزا عما قد يقع لهم من العداوة والبغضاء فيما بينهم بسبب إيثار بعضهم بالوصية له.

        [ ص: 521 ] أدلة القول الثاني:

        1 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "لا وصية لوارث" فإن نفي الجواز يدل على التحريم، والتحريم يدل على الفساد.

        والاحتمال الموجود في الحديث: (لا وصية لوارث) ظاهره نفي وجود الوصية للوارث، وعدم وقوعها في الخارج، وهذا الظاهر غير مراد، فيجب تقدير محذوف في الكلام لتوقف الصدق عليه، وهو متردد بين الصحة واللزوم، فيحتمل لا وصية صحيحة، ويحتمل لا وصية لازمة، والحديث وإن كان مترددا بين مجازين، نفي الصحة ونفي اللزوم، إلا أن نفي الصحة أقرب لنفي الذات من نفي اللزوم، وحمل اللفظ على المجاز القريب أولى من حمله على المجاز البعيد.

        ومن قدر الثاني قال: هو نفي لنفوذها ولزومها، وذلك لا ينافي صحتها، فهي صحيحة غير لازمة لانعقادها ممن له أهلية عقدها.

        (190) 2 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" .

        (191) 3 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال: "ليس لوارث وصية" .

        4 - أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدنا الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله ورسوله.

        [ ص: 522 ] ونوقش: بأنه غير مسلم، فلا يسلم من أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدي; إذ أن أحكام المعاملات شرعها الله لمصالح ومقاصد تعود بالخير والنفع على العباد.

        سبب الخلاف: هو اختلافهم في العلة التي من أجلها منعت الوصية للوارث، هل هي كونه وارثا؟ أو أن المنع تعبدي ؟.

        والراجح - والله أعلم -: هو القول الأول; وذلك لأن المنع من الزيادة عن الثلث لأجنبي، والمنع من الوصية بشيء للوارث إنما هو لأجل حق الورثة، فإذا رضي الورثة بذلك فقد رضوا بإسقاط حقهم; لقوة ما استدلوا به، ولأن هذا هو فهم السلف، كما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولما روى ابن سيرين عن عبيدة السليمان قال: "إذا مات الشخص وليس عليه عقد ولا حد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء" والله تعالى أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية