الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: وصية المجنون حال إفاقته :

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - فيما يصدره المجنون من وصية حال إفاقته إذا كان يجن أحيانا، ويفيق أحيانا، على قولين:

        القول الأول: أن ما يصدره المجنون من وصية في حال إفاقته يعد صحيحا نافذا.

        وبهذا قال جمهور الفقهاء.

        فهو مذهب الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة .

        القول الثاني: أن ما يصدره المجنون من وصية حال إفاقته، فيه تفصيل: فإن كان لإفاقة المجنون وقت معلوم فأوصى في ذلك الوقت، فالحكم أنها صحيحة نافذة.

        وإن لم يكن لإفاقته وقت معلوم فأوصى في حال الإفاقة، فالحكم أنها موقوفة على إجازة الولي.

        وإلى هذا القول ذهب بعض الحنفية .

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        استدل القائلون بصحة وصية المجنون حال إفاقته:

        [ ص: 289 ] 1 - حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وعن المجنون حتى يفيق" ، فمفهومه أنه إذا أفاق صحت تصرفاته، وكتب عليه القلم في أفعاله وأقواله.

        الثاني: بطريق الإيماء، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم... وعن المجنون" يدل بطريق الإيماء على أن علة رفع القلم هي الجنون; للقاعدة الأصولية: أن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، وإذا كانت علة رفع القلم عن المجنون هي جنونه فإنه يلزم من زواله وإفاقته ثبوت تصرفاته وصحتها; لقاعدة: الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.

        الثالث: أنه في حال إفاقته لا يسمى مجنونا حقيقة، فلا يشمله لفظ الحديث: (وعن المجنون).

        2 - الإجماع حكاه الإمام مالك .

        قال يحيى : سمعت مالكا يقول: "الأمر المجتمع عليه عندنا: أن الضعيف في عقله، والسفيه، والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياه، إذا كان معهم ما يعرف من عقولهم، ما يعرفون ما يوصون به، فأما من ليس معه من عقله ما يعرف به ما يوصى به، وكان مغلوبا على عقله، فلا وصية له.

        3 - أن الأصل صحة الوصية إلا لتخلف شرط، أو وجود مانع، ولم يوجد.

        4 - أن العلة من عدم صحة وصية المجنون زالت بإفاقته، والقاعدة الشرعية: أن كل علة أوجبت حكما، اقتضى أن يكون زوال تلك العلة موجبا لزوال ذلك الحكم.

        دليل القول الثاني: استدل القائلون بصحة وصية المجنون ونفاذها إن كان لإفاقته وقت [ ص: 290 ] معلوم، وبوقفها على إجازة الولي إن لم يكن لها وقت معلوم: أن من كان لإفاقته وقت معلوم فإنه يتحقق من صحوه، ومن لم يكن لإفاقته وقت معلوم لا يتحقق صحوه.

        ويناقش هذا التعليل: بأن العلة من عدم صحة وصية المجنون هي زوال العقل، فإذا أفاق زالت العلة وتحقق شرط صحة الوصية، وارتفع بطلانها، وحينئذ فلا يلتفت إلى كون الإفاقة لها وقت معلوم أو لا.

        الترجيح:

        يظهر لي - والله أعلم بالصواب - رجحان القول بصحة وصية المجنون; لقوة دليل أصحاب هذا القول، وضعف تعليل القائلين بالتفصيل.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية