الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني: القدر المستحب أن يوصى به

        تقدم أن الموصى له أن يوصي بالثلث، لكن هل يستحب له أن يبلغه، أو الأفضل أن يقصر عنه؟ هذا موضع خلاف بين العلماء:

        القول الأول: إن كان الورثة أغنياء لم يستحب النقص عن الثلث، وإلا استحب.

        [ ص: 195 ] وبه قال الكاساني ، والنووي .

        قال الكاساني : "فإن كانت ورثته فقراء فالأفضل أن يوصي بما دون الثلث ويترك المال لورثته; لأن غنية الورثة تحصل بما زاد على الثلث إذا كان المال كثيرا، ولا تحصل عند قلته.

        والوصية بالخمس أفضل من الوصية بالربع، والوصية بالربع أفضل من الوصية بالثلث... وإن كان ورثته أغنياء، فالأفضل الوصية بالثلث".

        قال النووي : "إن كان ورثته أغنياء استحب الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحب النقص منه".

        القول الثاني: أنه يستحب النقص عن الثلث مطلقا، سواء كان الورثة أغنياء أو فقراء.

        وبه قال الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، وبعض الحنابلة .

        القول الثالث: يستحب الوصية بالخمس.

        وهو مذهب الحنابلة .

        القول الرابع: أنه تستحب الوصية بثلث المال عند كثرته.

        وبه قال القاضي ، وأبو الخطاب ، وابن عقيل من الحنابلة .

        قال الحارثي : وهو المنصوص.

        [ ص: 196 ] القول الخامس: أنه تستحب الوصية بالثلث للغني، وللمتوسط بالخمس.

        وبه قال بعض الحنابلة .

        القول السادس: وقال إسحاق بن راهويه : السنة الربع إلا أن يكون الموصي رجلا يعرف في ماله الشبهات، فعليه استغراق الثلث.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        أولا: دليلهم على استحباب الوصية بالثلث إذا كان الورثة أغنياء:

        1 - حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه رواية "الثلث" بالرفع.

        قال الشوكاني : "ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل، أي: كثير أجره".

        ونوقش: بأن المعنى كثير غير قليل كما ذهب إلى ذلك ابن عباس ، والشافعي ، وغيرهما، كما سيأتي.

        2 - رواية "الثلث" بالنصب على الإغراء، وهو دليل الندب.

        3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" وهو عام في الغني والفقير، وفيمن ترك ورثة أغنياء أو فقراء يحيطون بميراث أو لا.

        (88) 4 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن [ ص: 197 ] عمر رضي الله عنهما، قال: ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال: "الثلث وسط، لا بخس ولا شطط" .

        (89) 5 - ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن هشام ، عن أبيه "أن الزبير أوصى بثلثه" .

        (90) 6 - ما رواه البيهقي من طريق طلحة بن مصرف ، عن مالك بن الحارث ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الذي يوصي بالخمس أفضل من الذي يوصي بالربع، والذي يوصي بالربع أفضل من الذي يوصي بالثلث" .

        7 - أن الأجر يكثر بكثرة الصدقة، ويقل بقلتها، ولا تستوي الصدقة بالقليل والصدقة بالكثير، ويدل على ذلك:

        (91) ما رواه البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه، عن أبي مراوح ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله"، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها" ، والوصية مثل الصدقة، والعتق تعظم بعظم الموصى به.

        ثانيا: دليلهم على استحباب النقص عن الثلث إذا كان الورثة فقراء:

        1 - حديث سعد رضي الله عنه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ، وفيه دليل على مشروعية مراعاة حال الورثة عند الوصية.

        [ ص: 198 ] (92) 2 - ما رواه سعيد بن منصور من طريق إسحاق بن سويد ، قال: نا العلاء بن زياد ، قال: جاء شيخ إلى عمر فقال: "يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير وإن مالي كثير، وترثني أعراب موال، كلالة، منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير ومالي كثير ويرثني أعراب موال، كلالة، منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: فلم يزل يحطه حتى بلغ العشر" .

        (93) 3 - ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لو غض الناس إلى الربع; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير أو كبير" .

        أدلة القول الثاني: ما تقدم من حديث سعد رضي الله عنه، وما سيأتي من أثار الصحابة رضي الله عنهم.

        أدلة القول الثالث:

        (94) 1 - ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال: "لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، وأن [ ص: 199 ] أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئا.

        (95) 2 - ما رواه البيهقي من طريق محمد ، ثنا شيبان ، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى بخمس ماله، وقال: لا أرضى من مالي بما رضي الله به من غنائم المسلمين (وقال قتادة )، وكان يقال: الخمس معروف، والربع جهد، والثلث يجيزه القضاة" .

        (96) 3 - ما رواه سعيد بن منصور في سننه من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : "كان الخمس أحب إليهم من الثلث، وأما الثلث فهو منتهى الجامح" .

        دليل القول الرابع: ما تقدم من حديث سعد رضي الله عنه، فقد رخص له النبي صلى الله عليه وسلم بالوصية بالثلث; لما أخبره بكثرة ماله، وقلة عياله.

        دليل القول الخامس: ما تقدم من دليل القول الثالث، والرابع.

        دليل القول السادس: ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "لو أن الناس [ ص: 200 ] غضوا من الثلث إلى الربع" .

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم -: أن هذا يختلف باختلاف مال الموصي وحال الورثة، فإن كانوا أغنياء وكثر المال فيستحب أن يوصي بالثلث، وإن كانوا خلاف ذلك نقص بحسب الحال، وبهذا تجتمع الأدلة.

        ولأن المتبادر إلى الفهم أن سؤال سعد سؤال عن الجواز، لا عن الاستحباب.

        قال ابن قدامة : "فعند هذا يختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم وقلتهم، وغناهم وحاجتهم، فلا يتقيد بقدر من المال، والله أعلم".

        وقد قال الشعبي : "ما من مال أعظم أجرا، من مال يتركه الرجل لولده، يغنيهم به عن الناس" .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية