الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (46) قوله : فتكون : هو منصوب على جواب الاستفهام. وعبارة الحوفي "على جواب التقرير". وقيل: على جواب النفي، وقرأ مبشر بن عبيد "فيكون" بالياء من تحت; لأن التأنيث مجازي. ومتعلق الفعل محذوف أي: ما حل بالأمم السالفة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فإنها لا تعمى" الضمير للقصة. و "لا تعمى الأبصار" مفسرة له. وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل: "فإنه" لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره "الأبصار" وفي "تعمى" راجع إليه". قال الشيخ: "وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور، وليس هذا واحدا منه: وهو من باب "رب"، وفي باب نعم [ ص: 289 ] وبئس، وفي باب الإعمال، وفي باب البدل، وفي باب المبتدأ والخبر، على خلاف في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسة الأول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن، فإنه يفسر بجملة، وهذا ليس واحدا من الستة".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: بل هذا من المواضع المذكورة، وهو باب المبتدأ. غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو "إن" فهو نظير قولهم: "هي العرب تقول ما شاءت، وهي النفس تتحمل ما حملت" وقوله تعالى: " إن هي إلا حياتنا " . وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ولا أثر له، وعجبت من غفلة الشيخ عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "التي في الصدور" صفة أو بدل أو بيان. وهل هو توكيد; لأن القلوب لا تكون في غير الصدور، أو لها معنى زائد؟ كما قال الزمخشري: "الذي قد تعورف واعتقد أن العمى في الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف; ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف، ولكنه للسانك الذي بين فكيك. فقولك: "الذي بين فكيك" تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت; لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهوا، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 290 ] وقد رد الشيخ على أبي القاسم قوله: "تعمدت به إياه" وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير، وليس من مواضع فصله، وكان صوابه أن يقول: تعمدته به كما تقول: "السيف ضربتك به" لا "ضربت به إياك". قلت: وقد تقدم لك نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى: "يخرجون الرسول وإياكم"، "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم": وهو أنه - مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض- يمتنع اتصاله، وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه، وإن كان مخطئا في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له فيما نحن بصدده؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام فخر الدين: "وفيه عندي وجه آخر: وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر، كقوله تعالى:[648/ب] "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب". وعند قوم أن محل الذكر هو الدماغ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر". وفي محل العقل خلاف مشهور، وإلى الأول ميل ابن عطية قال: "هو مبالغة كما تقول: نظرت إليه بعيني، وكقوله: يقولون بأفواههم". قلت: وقد أبديت فائدة في قوله "بأفواههم" زيادة على التأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 291 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية