الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (24) قوله : وجدتها : هي التي بمعنى لقيت] وأصبت فتتعدى لواحد، فيكون "يسجدون" حالا من مفعولها وما عطف عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ألا يسجدوا": قرأ الكسائي بتخفيف "ألا"، والباقون بتشديدها. فأما قراءة الكسائي فـ "ألا" فيها تنبيه واستفتاح، و "يا" بعدها حرف نداء أو تنبيه أيضا على ما سيأتي و "اسجدوا" فعل أمر. وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون "يا اسجدوا"، لكن الصحابة أسقطوا ألف "يا" وهمزة الوصل من "اسجدوا" خطا لما سقطا لفظا، ووصلوا الياء بسين "اسجدوا"، فصارت صورته "يسجدوا" كما ترى، فاتحدت القراءتان لفظا وخطا واختلفتا تقديرا.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف النحويون في "يا" هذه: هل هي حرف تنبيه أو للنداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء اسجدوا؟ وقد تقدم ذلك عند قوله: "يا ليتني" في سورة النساء. والمرجح أن تكون للتنبيه; لئلا يؤدي إلى حذف كثير من غير بقاء ما يدل على المحذوف. ألا ترى أن جملة النداء حذفت، فلو ادعيت [ ص: 599 ] حذف المنادى كثر الحذف ولم يبق معمول يدل على عامله، بخلاف ما إذا جعلتها للتنبيه. ولكن عارضنا هنا أن قبلها حرف تنبيه آخر وهو "ألا". وقد اعتذر عن ذلك: بأنه جمع بينهما تأكيدا. وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفين عاملين للتأكيد كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3559 - فأصبحن لا يسألنني عن بما به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      فغير العاملين أولى. وأيضا فقد جمعوا بين حرفين عاملين متحدي اللفظ والمعنى، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3560 - فلا والله لا يلفى لما بي     ولا للما بهم أبدا دواء



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا أولى. وقد كثر مباشرة "يا" لفعل الأمر وقبلها "ألا" التي للاستفتاح كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3561 - ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي     ثلاث تحيات وإن لم تكلمي



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3562 - ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى     ولا زال منهلا بجرعائك القطر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 600 ] وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3563 - ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد     وذات اللثاث الجم والفاحم الجعد



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      364 - ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر     وإن كان حيانا عدا آخر الدهر



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3565 - ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر     لعل منايانا قربن ولا ندري



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3566 - ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 601 ] وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3567 - فقالت ألا يا اسمع أعظك لخطبة     فقلت: سمعنا فانطقي وأصيبي



                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء ذلك، وإن لم يكن قبلها "ألا" كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3568 - يا دار هند يا اسلمي ثم اسلمي     بسمسم أو عن يمين سمسم



                                                                                                                                                                                                                                      فقد عرفت أن قراءة الكسائي قوية لكثرة دورها في لغتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سمع ذلك في النثر، سمع بعضهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تصدقوا علينا. وأما قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      3569 - يا لعنة الله والأقوام كلهم     والصالحين على سمعان من جار



                                                                                                                                                                                                                                      فيحتمل أن تكون "يا" للنداء، والمنادى محذوف، وأن تكون للتنبيه وهو الأرجح لما مر.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن الكسائي الوقف عنده على "يهتدون" تام.

                                                                                                                                                                                                                                      وله أن يقف على "ألا يا" معا ويبتدئ "اسجدوا" بهمزة مضمومة، وله أن يقف على "ألا" وحدها، وعلى "يا" وحدها; لأنهما حرفان منفصلان. وهذان الوقفان وقفا اختبار لا اختيار; لأنهما حرفان لا يتم معناهما، إلا بما يتصلان به، [ ص: 602 ] وإنما فعله القراء امتحانا وبيانا. فهذا توجيه قراءة الكسائي، والخطب فيها سهل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إمعان نظر. وفيه أوجه كثيرة، أحدها: أن "ألا" أصلها: أن لا، فـ "أن" ناصبة للفعل بعدها; ولذلك سقطت نون الرفع، و "لا" بعدها حرف نفي. و "أن" وما بعدها في موضع مفعول "يهتدون" على إسقاط الخافض، أي: إلى أن لا يسجدوا. و "لا" مزيدة كزيادتها في "لئلا يعلم أهل الكتاب". الثاني: أنه بدل من "أعمالهم" وما بينهما اعتراض تقديره: وزين لهم الشيطان عدم السجود لله. الثالث: أنه بدل من "السبيل" على زيادة "لا" أيضا. والتقدير: فصدهم عن السجود لله تعالى. الرابع: أن "ألا يسجدوا" مفعول له. وفي متعلقه وجهان، أحدهما: أنه زين أي: زين لهم لأجل أن لا يسجدوا. والثاني: أنه متعلق بـ "صدهم" أي: صدهم لأجل أن لا يسجدوا. وفي "لا" حينئذ وجهان، أحدهما: أنه ليست مزيدة، بل نافية على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدة والمعنى: وزين لهم لأجل توقعه سجودهم، أو لأجل خوفه من سجودهم. وعدم الزيادة أظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر. وهذا المبتدأ: إما أن يقدر ضميرا عائدا على "أعمالهم" التقدير: هي أن لا يسجدوا، فتكون "لا" على بابها من النفي، وإما أن يقدر ضميرا عائدا على "السبيل". التقدير: هو أن لا يسجدوا فتكون "لا" مزيدة على ما تقدم ليصح المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقف على "يهتدون" لأن ما بعده: إما معمول له أو لما قبله من "زين" و "صد"، أو بدل مما قبله أيضا من [ ص: 603 ] "أعمالهم" أو من "السبيل" على ما قرر وحرر، بخلاف الوجه الخامس فإنه مبني على مبتدأ مضمر، وإن كان ذلك الضمير مفسرا بما سبق قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كتبت "ألا" موصولة غير مفصولة، فلم تكتب "أن" منفصلة من "لا" فمن ثم امتنع أن يوقف لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على "أن" وحدها لاتصالها بـ "لا" في الكتابة، بل يوقف لهم على "ألا" بجملتها، كذا قال القراء. والنحويون متى سئلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمة على حدتها لضرورة البيان، وكونها كتبت متصلة بـ "لا" غير مانع من ذلك. ثم قول القراء كتبت متصلة فيه تجوز وتسامح; لأن حقيقة هذا أن يثبتوا صورة نون ويصلونها بـ "لا"، فيكتبونها: أنلا، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظا وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها، قالوا ذلك تسامحا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رتب أبو إسحاق على القراءتين حكما: وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه; فأوجبه مع قراءة الكسائي وكأنه لأجل الأمر به، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها. إلا أن الزمخشري لم يرتضه منه فإنه قال: "فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أو في واحدة فيهما؟ قلت: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك". فما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 604 ] قلت: وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر، وظاهره الوجوب، وهذا لو خلينا والآية لكان السجود واجبا، ولكن دلت السنة على استحبابه دون وجوبه، على أنا نقول: هذا مبني على نظر آخر: وهو أن هذا الأمر من كلام الله تعالى، أو من كلام الهدهد محكيا عنه. فإن كان من كلام الله تعالى فيقال: يقتضي الوجوب، إلا أن يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإن كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر- ففي انتهاضه دليلا نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش "هلا"، و "هلا" بقلب الهمزة هاء مع تشديد "لا" وتخفيفها وكذا هي في مصحف عبد الله . وقرأ عبد الله "تسجدون" بتاء الخطاب ونون الرفع. وقرئ كذلك بالياء من تحت. فمن أثبت نون الرفع فألا بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض أيضا نحو: "ألا تنزل عندنا نتحدث" وفي حرف عبد الله أيضا: "ألا هل تسجدون" بالخطاب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "الذي يخرج الخبء" يجوز أن يكون مجرور المحل نعتا له أو بدلا منه أو بيانا، أو منصوبه على المدح، ومرفوعه على خبر ابتداء مضمر. والخبء مصدر خبأت الشيء أخبؤه خبئا أي: سترته، ثم أطلق على الشيء المخبوء. ونحوه: "هذا خلق الله". وفي التفسير: الخبء في السماوات: المطر، وفي الأرض: النبات. والخابية من هذا، إلا أنهم التزموا فيها ترك الهمزة كالبرية والذرية عند بعضهم. وقرأ أبي وعيسى "الخب" بنقل حركة الهمزة إلى الباء، وحذف الهمزة، فيصير نحو: رأيت الأب. وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار "الخبا" بألف صريحة. ووجهها: أنه أبدل الهمزة ألفا [ ص: 605 ] فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة من يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفا يجانس حركتها فيقول: هذا الخبو، ورأيت الخبا ومررت بالخبي، ثم أجري الوصل مجرى الوقف. وعندي أنه لما نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها، بل تركها فسكنت بعد فتحة فديرت بحركة ما قبلها، وهي لغة ثابتة يقولون: المراة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال: "لا يجوز في العربية; لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء، فقال: الخب، وإن حولها قال: الخبي بسكون الباء وياء بعدها" قال المبرد: "كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يلحق بهم، إلا أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أعلم منه".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: في السماوات فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "الخبء" أي: المخبوء في السماوات. والثاني: أنه متعلق بـ "يخرج" على أن معنى "في" معنى "من" أي: يخرجه من السماوات. وهو قول الفراء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ما تخفون" قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما، والباقون بالياء من تحت. فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي; لأن قبله أمرهم بالسجود وخطابهم به. والغيبة على قراءة الباقين - غير حفص- ظاهرة أيضا; لتقدم الضمائر الغائبة في قوله: " لهم " و " أعمالهم " و "صدهم" و " فهم " . وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن [ ص: 606 ] أتم قضية أهل سبأ. ويجوز أن يكون التفاتا على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخاطبه ملتفتا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم". وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقا. وكذلك الخلاف في قوله "الله لا إله إلا هو" هل هو من كلام الهدهد استدراكا منه، لما وصف عرش بلقيس العظيم، أو من كلام الله تعالى ردا عليه في وصفه عرشها بالعظيم؟.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية