الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (97) قوله : لا مساس : قرأ العامة بكسر الميم وفتح السين. وهو مصدر لـ فاعل كالقتال من قاتل، فهو يقتضي المشاركة. وفي التفسير: لا تمسني ولا أمسك، وإن من مسه أصابته الحمى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عبر الشيخ وتبع فيه أبا البقاء. ومتى أخذنا بظاهر [ ص: 96 ] هذه العبارة لزم أن يقرأ "مسيس" بقلب الألف ياء لانكسار ما قبلها ولكن لم يرو ذلك، فينبغي أن يكونوا أرادوا بالكسر الإمالة. ويدل على ما قلته ما قاله الزمخشري: "وقرئ لا مساس بوزن فجار. ونحوه قولهم في الظباء: "إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب"، وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب". فهذا تصريح منه ببقاء الألف على حالها.

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل أيضا قول صاحب "اللوامح": "هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى انزل وانظر"، فهذا أيضا تصريح بإقرار الألف على حالها. ثم قال صاحب "اللوامح": "فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها "لا" النافية التي تنصب النكرات، نحو "لا مال لك" لكنه فيه نفي الفعل فتقديره: لا يكون منك مساس، ومعناه النهي أي: لا تمسني".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "لا مساس هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه. وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحيح من حيث هن معدولات. وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر، ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 97 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3315 - تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساس



                                                                                                                                                                                                                                      فكلام الزمخشري وابن عطية يعطي أن "مساس" على هذه القراءة معدول عن المصدر كفجار عن الفجرة، وكلام صاحب اللوامح يقتضي أنها معدولة عن فعل أمر، إلا أن يكون مراده أنها معدولة، كما أن اسم الفعل معدول، كما تقدم توجيه ابن عطية لكلام أبي عبيدة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لن تخلفه" قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام على البناء للفاعل. والباقون بفتحها على البناء للمفعول. وقرأ أبو نهيك - فيما حكاه عنه ابن خالويه- بفتح التاء من فوق، وضم اللام، وحكى عنه صاحب "اللوامح" كذلك، إلا أن بالياء من تحت. وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما القراءة الأولى فمعناها: لن تجده مخلفا كقولك: أحمدته وأجبنته أي: وجدته محمودا وجبانا. وقيل: المعنى: سيصل إليك، ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه. قال الزمخشري: "وهذا من أخلفت الوعد إذا وجدته مخلفا. قال الأعشى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 98 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3316 - أثوى وقصر ليلة ليزودا     فمضى وأخلف من قتيلة موعدا



                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الثانية: لن يخلف الله موعده الذي وعدك. وأما قراءتا أبي نهيك فهما من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي: الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله. وهي قراءة مشكلة. قال أبو حاتم: "لا نعرف لقراءة أبي نهيك مذهبا" وأما قراءة ابن مسعود فأسند الفعل فيها إلى الله تعالى. والمفعول الأول محذوف أي: لن يخلفكه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ظلت" العامة على فتح الظاء، وبعدها لام ساكنة. وابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسر الظاء. وروي عن ابن يعمر ضمها أيضا. وأبي والأعمش في الرواية الأخرى "ظللت" بلامين أولاهما مكسورة".

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة العامة ففيها: حذف أحد المثلين، وإبقاء الظاء على حالها من حركتها، وإنما حذف تخفيفا. وعده سيبويه في الشاذ. يعني شذوذ قياس لا شذوذ استعمال، وعد معه ألفاظا أخر نحو: مست وأحست كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3317 - . . . . . . . . . . . . . .     أحسن به فهن إليه شوس



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 99 ] وعد ابن الأنباري "همت" في "هممت" ولا يكون هذا الحذف إلا إذا سكنت لام الفعل. وذكر بعض المتأخرين أن هذا الحذف منقاس في كل مضاعف العين واللام سكنت لامه، وذلك في لغة سليم.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي أقوله: إنه متى التقى التضعيف المذكور والكسر نحو: ظللت ومسست انقاس الحذف. وهل يجري الضم مجرى الكسر في ذلك؟ فالظاهر أنه يجري. بل بطريق الأولى; لأن الضم أثقل من الكسر نحو: غضن يا نسوة أي: اغضضن أبصاركن، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأما الفتح فالحذف فيه ضعيف نحو: "قرن يا نسوة في المنزل" ومنه في أحد توجيهي قراءة "وقرن في بيوتكن" كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الكسر فوجهه أنه نقل كسرة اللام إلى الفاء بعد سلبها حركتها لتدل عليها. وأما الضم فيحتمل أن يكون جاء فيه لغة على فعل يفعل بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع، ثم نقلت، كما تقدم ذلك في الكسر. وأما ظللت بلامين فهذه هي الأصل، وهي منبهة على غيرها. و "عاكفا" خبر "ظل".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لنحرقنه" جواب قسم محذوف أي: والله لنحرقنه. والعامة على ضم النون وكسر الراء مشددة من حرقه يحرقه بالتشديد. وفيها تأويلان. أظهرهما: أنها من حرقه بالنار. والثاني: أنه من حرق ناب البعير، إذا وقع عض ببعض أنيابه على بعض. والصوت المسموع منه يقال له الصريف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 100 ] والمعنى: لنبردنه بالمبرد بردا نمحقه به كما يفعل البعير بأنيابه بعضها على بعض.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر "لنحرقنه" بضم النون وسكون الحاء وكسر الراء، من أحرق رباعيا. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر "لنحرقنه" كذلك إلا أنه ضم الراء. فيجوز أن يكون أحرق وحرق بمعنى كأنزل ونزل. وأما القراءة الأخيرة فبمعنى لنبردنه بالمبرد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لننسفنه" العامة على فتح النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين خفيفة. وقرأ عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر السين مشددة. والنسف: التفرقة والتذرية وقيل: قلع الشيء من أصله يقال: نسفه ينسفه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان. والتشديد للتكثير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية