فصل : فإذا ثبت أن على المتحلل بالإحصار هديا ، انتقل الكلام إلى ، فنقول : ليس يخلو أن يكون محصرا في حل أو في حرم ، فإن كان محصرا في حرم ، فعليه أن ينحر هدي إحصاره في الحرم ، فإن نحره في الحل لم يجزه ، وإن كان الموضع الذي يجوز أن ينحر فيه الهدي فلا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يكون قادرا على إيصال هديه إلى الحرم ، أو غير قادر ، فإن كان قادرا على إيصال هديه إلى الحرم ، لم يجز أن ينحر ، في الحل ، وكان عليه إيصاله إلى الحرم ، ومن أصحابنا محصرا في الحل البغداديين من جوز نحر هديه في الحل ، وإن قدر على إيصاله إلى الحرم ، والمذهب هو الأول ، وعليه جميع أصحابنا البصريين ، وقد حكاه أبو حامد في جامعه عن الشافعي نصا ، فأما إذا كان ، فإنه يجوز أن ينحره في الحل ، حيث أحصر ، وقال المحصر في الحل غير قادر على إيصال هديه إلى الحرم أبو حنيفة : عليه أن يوصله إلى الحرم ، ولا يجوز أن ينحره في الحل ؛ استدلالا بقوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله
[ ص: 351 ] [ البقرة : 196 ] ، فأمر بإبلاغ الهدي محله ، ومحله الحرم : لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهديه إلى مكة مع ناجية بن جندب ، فكان ينحره في الفجاج والأودية ، فلو جاز نحره في الحل لكان لا يتعذر بإنفاذه إلى الحرم ، ولكان نحره بحضرته أفضل ، فعلم أنه إنما أنفذه إلى الحرم : لأن نحره في الحل لا يجوز ، قال : ولأنه دم لزم بحكم الإحرام ، فوجب أن تجب إراقته في الحرم ، قياسا على سائر الدماء ، والدلالة عليه قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي فأوجب الهدي ولم يجر للمكان ذكر ، فكان الظاهر يقتضي جواز نحره عقيب الإحصار ولم يفصل بين أن يكون الإحصار في حل أو حرم .
روي عن جابر بن عبد الله أنه قال : " الحديبية ، فنحرنا البدنة عن سبعة ، ونحرنا البقرة عن سبعة " فدل على نحر ذلك أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام بالحديبية .
فإن قيل : هذا يدل على إحصاره بالحديبية ، ويجوز أن يكون أرسل هديه إلى الحرم .
قيل : هذا تأويل يرده نص الكتاب ؛ قال الله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، والمراد بالمسجد الحرام الحرم ، فأخبر أنهم منعوا الهدي أن يصل محله من الحرم .
فإن قيل : فالحديبية التي نحر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرم .
قيل : هذا صحيح : لما تقدم من الآية ، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغت راحلته إلى ثنية ذات الحنظل بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ثقل عليها الحرم ، وهو علي أثقل ، فقد دل ذلك على أنه لم يدخل الحرم ، على أنه قد روي عن جابر أنه قال : نحرنا في حل من الحديبية : ولأنه موضع لتحلله ، فجاز أن يكون محلا لهديه كالحرم ، ولأن إحلال المحصر يكون بالنحر والحلق ، فلما كان الحلق في موضع إحصاره ، كذلك النحر في موضع إحصاره .
وتحريره قياسا أنه أحد سببي التحلل ، فجاز أن يكون في موضع إحصاره من الحل كالحلق .
فأما الجواب عن قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ البقرة : 196 ] ، فالمحل موضع الإحلال ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : لضباعة بنت الزبير ، وقوله تعالى : أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني ثم محلها إلى البيت العتيق [ الحج : 33 ] ، وارد في غير المحصر ، وأما ما روي أنه بعث بهديه إلى مكة مع ناجية بن جندب ، فذاك في غير السنة التي أحصر فيها .
[ ص: 352 ] وأما قياسهم على غير المحصر أنه يلزمه إيصاله إلى الحرم ، فالمعنى فيه أن غير المحصر لا يتحلل إلا في الحرم : فلذلك لم يجز أن ينحر إلا في الحرم ، وليس كذلك المحصر .