الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وما عطب منها نحرها وخلى بينها وبين [ ص: 381 ] المساكين ولا بدل عليه فيها وما كان واجبا من جزاء الصيد أو غيره فلا يأكل منها شيئا ، فإن أكل فعليه بقدر ما أكل لمساكين الحرم وما عطب منها فعليه مكانها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وقد مضى الكلام في الهدي إذا بلغ محله ، فأما إذا عطب في طريقه وضعف عن بلوغ محله بمرض أو عرج أو زمانة فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون تطوعا .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون واجبا في الدقة كدماء الحج .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون واجبا لا يتعلق بالذمة كالنذر .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو أن يكون الهدي تطوعا فعليه أن ينحره في موضعه ويغمس نعليه في دمه ويضربها على صفحته ويخلي بينه وبين مساكين الموضع وينادي فيهم بإباحته ، وإنما فعل ذلك لما روى سنان بن سلمة عن ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالنذر ثم يقول إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلك في دمها ثم اضربه صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ، فإذا فعل بالهدي ما ذكرنا وهي أربعة أشياء : النحر ، وغمس نعليه بدمه ، والنداء عليه ، والتخلية بين مساكين الموضع وبينه - فليس له أن يأكل منه غنيا كان أو فقيرا ولا أحد من أغنياء أهل رفقته ، فأما فقراء رفقته فمذهب الشافعي أنه لا يجوز لهم أن يأكلوا أشياء منه وإن كانوا فقراء ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك وقال بعض أصحابنا : يجوز أن يأكل منها فقراء رفقته لأن بحصولهم بالموضع قد صاروا من أهله وهذا قول يدفعه نص السنة المروية ويبطله معنى النهي في الاحتياط : لأنه لو رخص لأهل الرفقة في أكله لجاز أن يتوصلوا إلى عطبه ليتعجلوا استباحة أكله فإذا منعوا من أكله عند عطبه كان ذلك داعية حفاظه وسبب الاحتياط في إبلاغه ، فإن أكل منه أو أكل أحد من أهل رفقته كان ضامنا لقدر ما أكل وعليه إبلاع ما ضمنه الحرم ؛ لأنه يقدر على إبلاغه الحرم بخلاف الهدي الذي قد عطب فلا يقدر على إبلاغه الحرم ، فإن لم يأكل هو ولا أحد من أهل رفقته منه وفعل به الأربعة أشياء فلم يأكل أحد من مساكين الموضع منه حتى تغير أو هلك فلا ضمان عليه : لأن عليه تمكين أهل الموضع منه وليس عليه أن يأكلوا منه ، فأما إذا لم يفعل به شيئا مما ذكرنا فتركه حتى مات فإن كان قادرا على نحره فلم ينحره حتى هلك فعليه ضمانه وغرامة مثله لمساكين الحرم ، وإن لم يقدر على نحره حتى مات بعجلة هلاكه وسرعة موته فلا ضمان عليه ، فأما إن نحره وخلى بينه وبين المساكين وأباح أكله من غير أن يصبغ نعليه بدمه أجزأه واستباح المساكين أن [ ص: 382 ] يأكلوه لرواية عبد الله بن قرط : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر وقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفيفة لم أفهمها فسألت بعض من يليني ما قال : قالوا قال : " من شاء اقتطع " . فأما إن نحره وغمس نعليه في دمه وضربها على صفحته ولم يناد في الناس به ولا أعلمهم بإباحته فهل يجزئه وتستبيح الناس بذلك أكله أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قوله في القديم : إن هذه علامة يستبيح الناس أكله بها كالنداء عليها ، فعلى هذا إن لم يأكلوها فلا ضمان عليه .

                                                                                                                                            القول الثاني : قاله في الجديد وهو الصحيح : ليست هذه علامة يستباح بها الأكل إلا بالنداء عليها ؛ لأن هذا العقد قد يحتمل أن يكون عن واجب في تطوع يستبيح الناس أكله ، وقد يحتمل أن يكون عن واجب في ذمته لا يستبيح الناس أكله ؛ فلم يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنداء ، فعلى هذا وإن لم يأكله الناس حتى هلك أو تغير ضمانه لمساكين الحرم ، فأما جلال الهدي التي عليها فعليه إيصالها إلى الحرم وتفريقها في مساكينه لقدرته على ذلك ولما روى ابن أبى ليلى عن علي - عليه السلام - قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة وأن أقسم جلالها وجلودها ، وروي في الحديث وألا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من عندنا ، فهذا حكم هدي التطوع إذا أعطب في طريق ، فإذا فعل ذلك فليس عليه بدله : لأن التطوع لم يعلق بذمته وقد فعل فيها ما أمر به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية