الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الفصل الرابع من الفصول الأربعة - وهو أن يعين له الإحرام عن شخص فيحرم عن غيره - فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ينتقل عن المستأجر إلى غيره بالعقد .

                                                                                                                                            والثاني : أن ينتقل منه إلى غيره بالشرع ؛ فأما الضرب الأول وهو ما انتقل عن المستأجر إلى غيره بالعقد وهو على ضربين :

                                                                                                                                            [ ص: 270 ] أحدهما : ما انتقل عنه بالعقد والحكم جميعا وهو أن يحرم الأجير مبتدئا عن نفسه أو عن أجنبي غير مستأجره ؛ فالحج واقع عن الأجير أو عن من نواه الأجير عنه دون المستأجر ، ويكون حال الأجير في ذلك حال من استؤجر ليحج في عام فأخره إلى غيره على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما انتقل عن المستأجر إلى غيره بالعقد دون الحكم ؛ وهو أن يحرم الأجير مبتدئا عن المستأجر ثم يقصد صرف الإحرام عن المستأجر إلى نفسه أو إلى أجنبي غيره ، فالحج واقع عن المستأجر لانعقاده عنه وحده .

                                                                                                                                            الثاني : غير مؤثر في انتقاله عنه ؛ لأن الحج إذا انتقل عن شخص لم يجز أن ينتقل بالقصد إلى غيره ، كما إذا انعقد الإحرام بنسك لم يجز أن ينتقل إلى غيره إذا كان الحج واقعا عن المستأجر ؛ لما ذكرنا ، فهل للأجير المطالبة بالأجرة أم لا ؟ على قولين ذكرهما في الأم :

                                                                                                                                            أحدهما : لا أجرة له : لأنه أتى بأفعال الحج عن نفسه دون مستأجره وإنما انصرف حكما إلى مستأجره ، ومن عمل لنفسه فصرفه الحكم إلى غيره لم يستحق أجرة عمله ، كمن عمل في معدن غيره بإذنه على أن ما حصل بعمله فهو هبة له كان جميع ما أخذه بعمله لرب المعدن دونه : لأنها هبة مجهولة ولا أجرة للعامل في عمله : لأنه عمل لنفسه ؛ كذلك الأجير في الحج .

                                                                                                                                            والقول الثاني : له أجرة : لأن المستأجر بذل الأجرة فيما يفعله عنه من أعمال الحج ، فإذا حصل الحج له لزمه من العوض ما بذله ، فأما القصد فلما لم يؤثر في صرف الحج لم يؤثر في إسقاط الأجرة .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني في الأصل - وهو ما انتقل عن المستأجر إلى غيره بالشرع دون العقد - على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما نقله الشرع عن المستأجر إلى غيره من غير أن يعتد به لغيره وذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما انتقل بالفساد وهو أن ينوي الإحرام عن المستأجر ثم يفسده بوطء فينصرف الإحرام عن المستأجر إلى الأجير شرعا على ما سنذكره .

                                                                                                                                            والثاني : ما انتقل بالفوات وهو أن يحرم عن المستأجر ثم يفوته الحج بفوات الوقوف بعرفة إما لخطأ في العدد أو مانع خاص ، وينتقل الإحرام عن المستأجر إلى الأجير شرعا : لأن العقد إنما اقتضى حجا سليما يسقط به الفرض فإذا تخلله فساد ، أو فوات لم يسقط الفرض فنقله الشرع عن المستأجر إلى الأجير وعلى الأجير القضاء عن نفسه ولا أجرة له .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما نقله الشرع عن المستأجر إلى غيره مع الاعتداد به لغيره وهو على ضربين :

                                                                                                                                            [ ص: 271 ] أحدهما : ما نقله الشرع بالشك الطارئ على الإحرام وهو أن يحرم الأجير ثم يشك فلا يعلم : هل أحرم عن المستأجر أم عن نفسه أو عن أجنبي غير مستأجره ؛ فإن الإحرام ينصرف بالشرع عن المستأجر إلى الأجير : لأن العقد يقتضي إحراما يسقط الفرض والشك لا يسقط الفرض ، فلذلك ما انصرف عن المستأجر إلى الأجير ، فعلى هذا إن تيقن الأجير بعد شكه إن كان قد أحرم عن مستأجره لم يخل حاله من أحد أمرين : إما أن يتيقن ذلك بعد فعل شيء أو قبل فعل شيء من الأركان فإن تيقن ذلك بعد فعل شيء من الأركان كان الحج واقعا عنه دون المستأجر ، وإن تيقن ذلك قبل فعل شيء عن الأركان ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون عن المستأجر وللأجير جميع الأجرة : لأن حدوث اليقين يرفع حكم ما تقدمه من الشك فلم يكن له تأثير ولا يعقبه فعل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن يكون عن الأجير ولا يكون حدوث اليقين الرافع للشك ناقلا للإحرام إلى المستأجر ؛ كمن أحرم بالصلاة مسافرا ثم شك هل نوى القصر أو الإتمام لزمه الإتمام فلو زال الشك وتيقن أنه نوى القصر لم يزل حكم الإتمام ؛ كذلك الحج .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما نقله الشرع بالتشريك بين المستأجر وغيره ؛ وهو أن يحرم بالحج أو العمرة عن المستأجر وعن نفسه فإنه يكون عن نفسه ؛ لأن النسك الواحد لا يصح أن يقع عن شخصين ؛ وكذلك لو استأجره رجلان ليحج عنهما فأحرم بالحج ينويهما كان الحج واقعا عن نفسه دونهما فلو استأجره أحدهما لحج واستأجره الآخر لعمرة فأحرم قارنا ينوي بالحج أحدهما وبالعمرة الآخر لم يجزه ذلك عن واحد منهما ووقعا معا عن نفسه ولم يستحق على واحد منهما شيئا من الأجرة ؛ لأن حكم القران حكم النسك الواحد ، ولا يجوز أن يقع النسك الواحد عن شخصين فكذلك لا يجوز أن يقع القران عن شخصين ، فلو استأجره رجل ليحج عنه فأحرم عنه بحجة مفردة ثم أدخل عليها لنفسه عمرة فصار قارنا على أحد القولين أو أحرم عن غيره بعمرة ثم أدخل عليها لنفسه حجا قارنا قولا واحدا ، فإن الحج والعمرة يقعان عن نفسه دون مستأجره : لأن مدخل أحد النسكين على الآخر كالمحرم بهما معا والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية