الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (136) قوله تعالى: وجعلوا لله : "جعل" هنا بمعنى صير [ ص: 159 ] فيتعدى لاثنين أولهما قوله "نصيبا" ، والثاني قوله "لله" ، و "مما ذرأ" يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف لأنه كان في الأصل صفة لـ "نصيبا" فلما قدم عليه انتصب حالا، والتقدير: وجعلوا نصيبا مما ذرأ لله، و "من الحرث" يجوز أن يكون بدلا من "مما ذرأ" بإعادة العامل كأنه قيل: وجعلوا لله من الحرث والأنعام نصيبا. ويجوز أن يتعلق بـ "ذرأ" ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال: إما من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف، وفي الكلام حذف مفعول اقتضاه التقسيم والتقدير: وجعلوا لله نصيبا من كذا ولشركائهم نصيبا منه، يدل عليه ما بعده من قوله: فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا و "هذا لله" جملة منصوبة المحل بالقول، وكذلك قوله "وهذا لشركائنا" .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: بزعمهم فيه وجهان أحدهما: أن يتعلق بـ "قالوا" أي: فقالوا ذلك القول بزعم لا بيقين واستبصار. وقيل: هو متعلق بما تعلق به الاستقرار من قوله "لله" . وقرأ العامة بفتح الزاي من "زعمهم" في الموضعين، وهذه لغة الحجاز وهي الفصحى. وقرأ الكسائي "بزعمهم" بالضم وهو لغة بني أسد، وهل الفتح والضم بمعنى واحد، أو المفتوح مصدر والمضموم اسم؟ خلاف مشهور. وقرأ ابن أبي عبلة "بزعمهم" بفتح الزاي والعين. وفيه لغة رابعة لبعض قيس وبني تميم وهي كسر الزاي، ولم يقرأ بهذه اللغة فيما علمت. وقد تقدم تحقيق الزعم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله لشركائنا يجوز فيه وجهان أحدهما: أن الشركاء من الشرك، ويعنون بهم آلهتهم التي أشركوا بينها وبين الباري تعالى في العبادة، وليست [ ص: 160 ] الإضافة إلى فاعل ولا إلى مفعول، بل هي إضافة تخصيص والمعنى: الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في العبادة. والثاني: أن الشركاء من الشركة، ومعنى كونهم سموا آلهتهم شركاءهم أنهم جعلوهم شركاء في أموالهم وزروعهم وأنعامهم ومتاجرهم وغير ذلك، فتكون الإضافة إضافة لفظية: إما إلى المفعول أي: شركائنا الذين شاركونا في أموالنا، وإما إلى الفاعل أي: الذين أشركناهم في أموالنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ساء ما يحكمون قد تقدم نظيرها غير مرة، وقد أعربها الحوفي هنا فقال: "ما" بمعنى الذي، والتقدير: ساء الذي يحكمون حكمهم فيكون "حكمهم" مبتدأ وما قبله الخبر وحذف لدلالة "يحكمون" عليه، ويجوز أن تكون "ما" تمييزا على مذهب من يجيز ذلك في "بئسما" فتكون في موضع نصب، التقدير: ساء حكما حكمهم، ولا يكون "يحكمون" صفة لـ "ما" لأن الغرض الإبهام، ولكن في الكلام حذف يدل عليه "ما" والتقدير: ساء ما ما يحكمون، فحذف "ما" الثانية. قلت: و "ما" هذه إن كانت موصولة فمذهب البصريين أن حذف الموصول لا يجوز، وقد عرف ذلك، وإن كانت نكرة موصوفة ففيه نظر، لأنه لم يعهد حذف "ما" نكرة موصوفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "وما" في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن تجري "ساء" هنا مجرى نعم وبئس; لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله ساء مثلا القوم لأن المفسر ظاهر في الكلام. قال الشيخ: وهذا كلام من لم ترسخ قدمه في العربية بل شدا فيها شيئا يسيرا; لأنها إذا جرت "ساء" مجرى بئس كان حكمها كحكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل ظاهر [ ص: 161 ] أو مضمر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح أو الذم والتمييز بها لدلالة الكلام عليه. فقوله: "لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق" قوله ساقط، ودعواه الاتفاق على ذلك مع أن الاتفاق على خلافه عجب عجاب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية