الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (12) قوله تعالى: ألا تسجد : في "لا" هذه وجهان، أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد. قال الزمخشري: "لا" في "أن لا تسجد" [ ص: 262 ] صلة بدليل قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ومثلها: لئلا يعلم أهل الكتاب بمعنى ليعلم. ثم قال: "فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك؟ وأنشدوا على زيادة "لا" قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2145 - أبى جوده لا البخل واستعجلت نعم به من فتى لا يمنع الجود نائله



                                                                                                                                                                                                                                      يروى "البخل" بالنصب والجر، والنصب ظاهر الدلالة في زيادتها، تقديره: أبى جوده البخل. وأما في رواية الجر فالظاهر منها عدم الدلالة على زيادتها. ولا حجة في هذا البيت على زيادة "لا" في رواية النصب، ويتخرج على وجهين أحدهما: أن تكون "لا" مفعولا بها و "البخل" بدل منها لأن "لا" تقال في المنع فهي مؤدية للبخل. والثاني: أنها مفعول بها أيضا، والبخل مفعول من أجله والمعنى: أبى جوده لفظ "لا" لأجل البخل أي كراهة البخل، ويؤيد عدم الزيادة رواية الجر. قال أبو عمرو بن العلاء: الرواية فيه بخفض "البخل" لأن "لا" تستعمل في البخل، وأنشدوا أيضا على زيادتها قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2146 - أفعنك لا برق كأن وميضه     غاب تسنمه ضرام مثقب

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 263 ] يريد: أفعنك برق. وقد خرجه الشيخ على احتمال كونها عاطفة وحذف المعطوف، والتقدير: أفعنك لا عن غيرك. وكون "لا" في الآية زائدة هو مذهب الكسائي والفراء وأبي إسحاق. وما ذكرته من كون "البخل" بدلا من "لا" و "لا" مفعول بها هو مذهب الزجاج. وحكى بعضهم عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يجر "البخل" ويجعل "لا" مضافة إليه، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل لأن "لا" قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له: "امنع الحق" أو "لا تعط المساكين" فقال: "لا" كان جودا. قلت: يعني فتكون الإضافة للتبيين؛ لأن "لا" صارت مشتركة فميزها بالإضافة وخصصها به. وقد تقدم طرف جيد من زيادة "لا" في أواخر الفاتحة وأقوال الناس في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد زعم جماعة أن "لا" في هذه الآية الكريمة غير زائدة، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم: في الكلام حذف يصح به النفي، والتقدير: ما منعك فأحوجك أن لا تسجد؟ وقال بعضهم: المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد؟ وبعضهم: من أمرك أن لا تسجد؟ ومن قال لك أن لا تسجد، أو ما دعاك أن لا تسجد؟ وهذا تمحل من يتحرج من نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدم تحقيقه، وأن معنى الزيادة على معنى يفهمه أهل العلم وإلا فكيف يدعى زيادة في القرآن بالعرف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما" استفهامية في محل رفع بالابتداء، والخبر بعدها أي: أي شيء [ ص: 264 ] منعك. و "أن" في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و "إذ" منصوب بتسجد أي: ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به. وقوله: خلقتني من نار لا محل لهذه الجملة لأنها كالتفسير والبيان للخبرية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية