الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (41) قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم : الظاهر أن "ما" هذه موصولة بمعنى الذي، وكان من حقها أن تكتب منفصلة من "أن" كما كتبت إن ما توعدون لآت منفصلة ولكن كذا رسمت. و "غنمتم" صلتها، وعائدها محذوف لاستكمال الشروط أي: غنمتموه. وقوله: فأن لله الفاء مزيدة في الخبر، لأن المبتدأ ضمن معنى الشرط، ولا يضر دخول الناسخ عليه لأنه لم يغير معناه وهذا كقوله تعالى: إن الذين فتنوا ثم قال: "فلهم". والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشرط إذا دخلت عليه "إن" المكسورة، وآية البروج حجة عليه. وإذا تقرر هذا فـ "أن" وما عملت فيه في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: فواجب أن لله خمسه، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر لـ "أن". وظاهر كلام الشيخ أنه جعل الفاء داخلة على "أن لله خمسه" من غير تقدير أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف، بل جعلها بنفسها خبرا، وليس مراده ذلك، إذ لا تدخل هذه الفاء على مفرد بل على جملة، والذي يقوي إرادته ما ذكرته أنه حكى قول الزمخشري أعني كونه قدره أن "أن" وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر، فجعله قولا زائدا على ما قدمه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز في "ما" أن تكون شرطية، وعاملها "غنمتم" بعدها، واسم "أن" حينئذ ضمير الأمر والشأن وهو مذهب الفراء. إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة بشرط أن لا يليها فعل كقوله: [ ص: 606 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2417 - إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2418 - إن من لام في بني بنت حسا     ن ألمه وأعصه في الخطوب



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الفاء زائدة و "أن" الثانية بدل من الأولى. وقال مكي: وقد قيل: إن الثانية مؤكدة للأولى، وهذا لا يجوز لأن "أن" الأولى تبقى بغير خبر، ولأن الفاء تحول بين المؤكد والمؤكد، وزيادتها لا تحسن في مثل هذا. وقيل: "ما" مصدرية والمصدر بمعنى المفعول أي: أن مغنومكم [هو] المفعول به، أي: واعلموا أن غنمكم، أي مغنومكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من شيء في محل نصب على الحال من عائد الموصول المقدر، والمعنى: ما غنمتموه كائنا من شيء أي: قليلا أو كثيرا. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، وحكى غيره عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو: "فإن لله" بكسر الهمزة. ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي "فلله خمسه" فإنها استئناف.

                                                                                                                                                                                                                                      وخرجها أبو البقاء على أنها وما في حيزها في محل رفع خبرا لـ "أن" الأولى. [ ص: 607 ] وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو "خمسه" وهو تخفيف حسن. وقرأ الجعفي "خمسه"، قالوا: وتخريجها أنه أتبع الخاء لحركة ما قبلها، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة قالوا: وهي كقراءة من قرأ والسمآء ذات الحبك بكسر الحاء إتباعا لكسرة التاء من "ذات" ولم يعتدوا بالساكن وهو لام التعريف لأنه حاجز غير حصين. ليت شعري وكيف يقرأ الجعفي والحالة هذه؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل لخروجه من كسر إلى ضم، وإن قرأ بسكونها وهو الظاهر فإنه نقلها قراءة عن أبي عمرو أو عن عاصم، ولكن الذي قرأ "ذات الحبك" يبقي ضمة الباء فيؤدي إلى فعل بكسر الفاء وضم العين وهو بناء مرفوض، وإنما قلت إنه يقرأ كذلك; لأنه لو قرأ بكسر الباء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع لأن في "الحبك" لغتين: ضم الحاء والباء أو كسرهما، حتى زعم بعضهم أن قراءة الخروج من كسر إلى ضم من التداخل.

                                                                                                                                                                                                                                      والغنيمة أصلها من الغنم وهو الفوز، وأصل ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف فإن الظفر به يسمى غنما ثم اتسع في ذلك فسمي كل شيء مظفور به غنما ومغنما وغنيمة. قال علقمة بن عبدة:


                                                                                                                                                                                                                                      2419 - ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه     أنى توجه والمحروم محروم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر: [ ص: 608 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2420 - لقد طوفت في الآفاق حتى     رضيت من الغنيمة بالإياب



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إن كنتم شرط جوابه مقدر عند الجمهور لا متقدم، أي: إن كنتم آمنتم فاعلموا أن حكم الخمس ما تقدم، أو فاقبلوا ما أمرتم به.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وما أنزلنا "ما" عطف على الجلالة فهي مجرورة المحل، وعائدها محذوف. وزعم بعضهم أن جواب الشرط متقدم عليه، وهو قوله "فنعم المولى" وهذا لا يجوز على قواعد البصريين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله يوم الفرقان يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون منصوبا بـ "أنزلنا" أي: أنزلناه في يوم بدر الذي فرق فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصب بقوله "آمنتم" ، أي: إن كنتم آمنتم في يوم الفرقان. ذكره أبو البقاء. والثالث: أنه يجوز أن يكون منصوبا بغنمتم. قال الزجاج: "أي ما غنمتم في يوم الفرقان حكمه كذا وكذا". قال ابن عطية: "وهذا تأويل حسن في المعنى، ويعترضه أن فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملة الكثيرة الألفاظ". قلت: وهو ممنوع أيضا من جهة أخرى أخص من هذه، وذلك أن "ما": إما شرطية كما هو رأي الفراء، وإما موصولة، فعلى الأول يؤدي إلى الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها، وعلى الثاني يؤدي إلى الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر "أن".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يوم التقى الجمعان فيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من الظرف قبله. والثاني: أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدر فكأنه قيل: يوم فرق فيه في [ ص: 609 ] يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاء الجمعين. وقرأ زيد بن علي "عبدنا" بضمتين وهو جمع عبد، وهذا كما قرئ وعبد الطاغوت والمراد بالعبد في هذه القراءة هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية