الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (26) قوله تعالى: يواري : في محل نصب صفة للباسا. وقوله "وريشا" يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، والمعنى: أنه وصف اللباس بشيئين: مواراة السوءة والزينة، وعبر عنها بالريش؛ لأن الريش زينة للطائر، كما أن اللباس زينة للآدميين ولذلك قال الزمخشري: "والريش لباس الزينة"، استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته". ويحتمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره أي: أنزلنا عليكم لباسين لباسا موصوفا بالمواراة ولباسا موصوفا بالزينة، وهذا اختيار الزمخشري فإنه قال بعدما حكيته عنه آنفا: أي: أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزينكم؛ لأن الزينة غرض صحيح كما قال تعالى: لتركبوها وزينة ، ولكم [ ص: 287 ] فيها جمال وعلى هذا فالكلام في قوة حذف موصوف وإقامة صفته مقامه والتقدير: ولباسا ريشا أي: ذا ريش.

                                                                                                                                                                                                                                      والريش فيه قولان، أحدهما: أنه اسم لهذا الشيء المعروف. والثاني: أنه مصدر، يقال: راشه يريشه ريشا إذا جعل فيه الريش، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق. وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: "ورياشا"، وفيها تأويلان أحدهما وبه قال الزمخشري أنه جمع ريش فيكون كشعب وشعاب. والثاني: أنه مصدر أيضا فيكون ريش ورياش مصدرين لـ راشه الله ريشا ورياشا أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: "اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا: لبس ولباس". قلت: وقد جوز الفراء أن يكون مصدرا فأخذ الزمخشري بأحد القولين، وغيره بالآخر، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      2178 - وريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زيارتكم لماما



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولباس التقوى قرأ نافع وابن عامر والكسائي "لباس" بالنصب والباقون "لباس" بالرفع. فالنصب نسقا على "لباسا" أي: أنزلنا لباسا مواريا وزينة، وأنزلنا أيضا لباس التقوى، وهذا يقوي كون "ريشا" صفة ثانية للباسا [ ص: 288 ] الأول إذ لو أراد أنه صفة لباس ثان لأبرز موصوفه كما أبرز هذا اللباس المضاف للتقوى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الرفع فمن خمسة أوجه، أحدها: أن يكون "لباس" مبتدأ، و "ذلك" مبتدأ ثان و "خير" خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابط هنا اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمسة المتفق عليها، ولنا سادس فيه خلاف تقدم التنبيه عليه. وهذا الوجه هو أوجه الأعاريب في هذه الآية الكريمة. الثاني: أن يكون "لباس" خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وكأن المعنى بهذه الجملة التفسير للباس المتقدم، وعلى هذا فيكون قوله "ذلك" جملة أخرى من مبتدأ وخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدره مكي بأحسن من تقدير الزجاج فقال: "وستر العورة لباس التقوى". الثالث: أن يكون "ذلك" فصلا بين المبتدأ وخبره، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحدا من النحاة أجاز ذلك، إلا أن الواحدي قال: ومن قال إن "ذلك" لغو لم يلق على قوله دلالة; لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا. قلت: فقوله "لغو" هو قريب من القول بالفصل; لأن الفصل لا محل له من الإعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين. الرابع: أن يكون "لباس" مبتدأ و "ذلك" بدل منه أو عطف بيان له أو نعت و "خير" خبره، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري، إلا أن [ ص: 289 ] الحوفي قال: وأنا أرى أن لا يكون "ذلك" نعتا للباس التقوى; لأن الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام، وسبيل النعت أن يكون مساويا للمنعوت أو أقل منه تعريفا، فإن كان قد تقدم قول أحد به فهو سهو.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: أما القول به فقد قيل كما ذكرته عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري، ونص عليه أبو علي في "الحجة" أيضا وذكره الواحدي. وقال ابن عطية: "هو أنبل الأقوال"، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة: أعني كونه بدلا أو بيانا أو نعتا، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعة، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة، ولكن قد يقال: القائل بكونه نعتا لا يجعله أعرف من ذي الألف واللام. الخامس: جوز أبو البقاء أن يكون "لباس" مبتدأ، وخبره محذوف أي: "ولباس التقوى ساتر عوراتكم"، وهذا تقدير لا حاجة إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإسناد الإنزال إلى اللباس: إما لأن أنزل بمعنى خلق كقوله: وأنزلنا الحديد ، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وإما على ما يسميه أهل العلم التدريج وذلك أنه ينزل أسبابه، وهي الماء الذي هو سبب في نبات القطن والكتان والمرعى الذي تأكله البهائم ذوات الصوف والشعر والوبر التي يتخذ منها الملابس، ونحو قول الشاعر يصف مطرا: [ ص: 290 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2179 - أقبل في المستن من سحابه     أسنمة الآبال في ربابه



                                                                                                                                                                                                                                      فجعله جائيا لأسنمة. . . الإبل مجازا لما كان سببا في تربيتها، وقريب منه قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2180 - إذا نزل السماء بأرض قوم     رعيناه وإن كانوا غضابا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: جعل ما في الأرض منزلا من السماء لأنه قضى ثم وكتب، ومنه: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "وأيضا فخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قراءة عبد الله وأبي: "ولباس التقوى خير" بإسقاط "ذلك"، وهي مقوية للقول بالفصل والبدل وعطف البيان. وقرأ النحوي: "ولبوس" بالواو ورفع السين. فأما الرفع فعلى ما تقدم في "لباس"، وأما "لبوس" فلم يبينوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى: وعلمناه صنعة لبوس لكم أو بضم اللام على أنه جمع وهو مشكل، وأكثر ما يتخيل له أن يكون جمع لبس بكسر اللام بمعنى ملبوس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ذلك من آيات الله مبتدأ وخبر، والإشارة به إلى جميع ما تقدم من إنزال اللباس والريش ولباس التقوى. وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباس التقوى فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 291 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية