الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (60) قوله تعالى: من قوة : في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أحدهما: أنه الموصول. والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقدير: ما استطعتموه حال كونه بعض القوة. ويجوز أن تكون "من" لبيان الجنس. و "رباط" جوزوا فيه أن يكون جمعا لـ "ربط" مصدر ربط يربط نحو: كعب وكعاب، وكلب وكلاب، وأن يكون مصدرا لـ "ربط" نحو: صاح صياحا قالوا: لأن مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكون مصدر "رابط". ومعنى المفاعلة أن ارتباط الخيل يفعله كل واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضا، قال معناه ابن عطية. قال الشيخ: "قوله" مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس، ليس بصحيح، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون قلت: في المسألة خلاف مشهور، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياس حتى يرد عليه بالخلاف، فإنه قد يكون اختار أحد المذاهب وقال به، فلا يرد عليه بالقول الآخر. وقال الزمخشري: والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن [ ص: 628 ] يكون جمع ربيط، يعني بمعنى مربوط كفصيل وفصال. والمصدر هنا مضاف لمفعول له.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ترهبون" يجوز أن يكون حالا من فاعل "أعدوا" أي: حصلوا لهم هذا حال كونكم مرهبين، وأن يكون حالا من مفعوله وهو الموصول أي: أعدوه مرهبا به، وجاز نسبته لكل منها لأن في الجملة ضميريهما، هذا إذا أعدنا الضمير من "به" على "ما" الموصولة. أما إذا أعدناه على الإعداد المدلول عليه بأعدوا، أو على الرباط، أو على القوة بتأويل الحول فلا يتأتى مجيئها من الموصول. ويجوز أن يكون حالا من ضمير "لهم" كذا نقله الشيخ عن غيره فقال: "وترهبون قالوا: حال من ضمير "أعدوا" أو من ضمير "لهم" ولم يتعقبه بنكير، وكيف يصح جعله حالا من الضمير في "لهم" ولا رابط بينهما؟ ولا يصح تقدير ضمير في جملة "ترهبون" لأخذه معموله".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو "ترهبون" مضعفا عداه بالتضعيف كما عداه العامة بالهمزة، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف لأن الفعل قبل النقل بالهمزة أو بالتضعيف متعد لواحد نحو: رهبتك، والتقدير: ترهبون عدو الله قتالكم أو لقاءكم. وزعم أبو حاتم أن أبا عمرو نقل قراءة الحسن بياء الغيبة وتخفيف "يرهبون" وهي قراءة واضحة، فإن الضمير حينئذ يرجع إلى من يرجع إليه ضمير "لهم"، فإنهم إذا خافوا خوفوا من وراءهم. [ ص: 629 ] وقرأ الحسن وأبو حيوة ومالك بن دينار "ومن ربط" بضمتين، وعن الحسن أيضا ربط بضم وسكون، وذلك نحو كتاب وكتب. قال ابن عطية: "وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر". قلت: لا نسلم والحالة هذه أنه مصدر، بل حكى أبو زيد أن "رباطا" الخمس من الخيل فما فوقها وأن جمعها "ربط"، ولو سلم أنه مصدر فلا نسلم أنه لم تختلف أنواعه، وقد تقدم أن "رباطا" يجوز أن يكون جمعا لربط المصدر، فما كان جوابا هناك فهو جواب هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: عدو الله العامة قرؤوه بالإضافة، وقرأه السلمي منونا، و "لله" بلام الجر، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله. قال صاحب "اللوامح": وإنما جعله نكرة بمعنى العامة، لأنها نكرة أيضا لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة; لأن اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف، وأما "وعدوكم" فيجوز أن يكون كذلك نكرة، ويجوز أن يتعرف لأنه قد أعيد ذكره، ومثله: "رأيت صاحبا لكم، فقال لي صاحبكم". يعني أن "عدوا" يجوز أن يلمح فيه الوصف فلا يتعرف وأن لا يلمح فيتعرف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وآخرين نسق على "عدو الله" و "من دونهم" صفة لـ "آخرين". قال ابن عطية: "من دونهم" بمنزلة قولك: "دون أن يكون هؤلاء" فـ "دون" في كلام العرب و "من دون" تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها [ ص: 630 ] القول، ومنه المثل: "وأمر دون عبيدة الوذم"، يعني أن الظرفية هنا مجازية، لأن "دون" لا بد أن تكون ظرفا حقيقة أو مجازا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا تعلمونهم الله يعلمهم في هذه الآية قولان، أحدهما: أن "علم" هنا متعدية لواحد، لأنها بمعنى عرف ولذلك تعدت لواحد. والثاني: أنها على بابها فتتعدى لاثنين، والثاني: محذوف، أي: لا تعلمونهم قارعين أو محاربين. ولا بد هنا من التنبيه على شيء: وهو أن هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله "الله يعلمهم" ، بل يجب أن يقال: إنها المتعدية إلى اثنين، وإن ثانيهما محذوف، لما تقدم لك من الفرق بين العلم والمعرفة، منها: أن المعرفة تستدعي سبق جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز أن يطلق ذلك أعني الوصفية بالمعرفة على الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية