الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (54) قوله تعالى: إن ربكم الله : الجمهور على رفع الجلالة خبرا لـ "إن" ، ويضعف أن تجعل بدلا من اسم "إن" على الموضع عند من يرى ذلك، والموصول خبر لـ "إن" وكذا لو جعله عطف بيان، ويتقوى هذا بنصب [ ص: 339 ] الجلالة في قراءة بكار فإنها فيها بدل أو بيان لاسم "إن" على اللفظ، ويضعف أن تكون خبرها عند من يرى نصب الجزأين فيها كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2209 - إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2210 - إن العجوز خبة جروزا     تأكل كل ليلة قفيزا



                                                                                                                                                                                                                                      قيل: ويؤيد ذلك قراءة الرفع أي في جعلها إياه خبرا، فالموصول نعت لله أو بيان له أو بدل منه، أو يجعل خبرا لـ "إن" على ما تقدم من التخاريج، ويجوز أن يكون معطوفا على المدح رفعا أو نصبا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: في ستة أصل ستة: سدس فقلبت السين تاء فلاقتها الدال وهي مقاربة لها ساكنة فوجب الإدغام، وهذا الإبدال لازم، ويدل على أن هذا هو الأصل رجوعه في التصغير إلى سديسة وفي الجمع [أسداس، وقولهم: جاء فلان سادسا وساتا وساديا بالياء مثناة] من أسفل، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2211 - . . . . . . . . . . . . . . .     وتعتدني إن لم يق الله ساديا



                                                                                                                                                                                                                                      أي سادسا فأبدلها ياء. [ ص: 340 ] و في ستة أيام الظاهر أنه ظرف لـ خلق السماوات والأرض فاستشكل على ذلك: أن اليوم إنما هو بطلوع الشمس وغروبها وذلك إنما هو بعد وجود السماوات والأرض. وأجابوا عنه بأجوبة منها: أن الستة ظرف لخلق الأرض فقط، فعلى هذا يكون قوله: خلق السماوات مطلقا لم يقيد بمدة، ويكون قوله "والأرض" مفعولا بفعل مقدر أي وخلق الأرض، وهذا الفعل مقيد بمدة ستة أيام، وهذا قول ضعيف جدا. وقوله: "ثم استوى" الظاهر عود الضمير على الله تعالى بالتأويل المذكور في البقرة. وقيل: الضمير يعود على الخلق المفهوم من خلق أي: ثم استوى خلقه على العرش. ومثله: الرحمن على العرش استوى قالوا: يحتمل أن يعود الضمير في "استوى" على الرحمن، وأن يعود على الخلق، ويكون "الرحمن" خبرا لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن.

                                                                                                                                                                                                                                      والعرش: يطلق بإزاء معان كثيرة فمنه سرير الملك، وعليه نكروا لها عرشها ، ورفع أبويه على العرش . ومنه السلطان والعز، وعليه قول زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      2212 - تداركتما عبسا وقد ثل عرشها     وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الآخر: [ ص: 341 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2213 - إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم     بربيعة بن الحارث بن شهاب



                                                                                                                                                                                                                                      ومنه خشب تطوى به البئر بعد أن يطوى بالحجارة أسفلها. ومنه ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع. ومنه السقف وكل ما علاك فهو عرش، وكأن المادة دائرة مع العلو والرفعة، ويقال لأربعة كواكب صغار أسفل من العواء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يغشي الليل النهار قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد "يغشي" مخففا من أغشى على أفعل، والباقون على التشديد من غشى على فعل، فالهمزة والتضعيف كلاهما للتعدية أكسبا الفعل مفعولا ثانيا، لأنه في الأصل متعد لواحد فصار الفاعل مفعولا. وقرأ حميد بن قيس "يغشى" بفتح الياء والشين، "الليل" رفعا، "النهار" نصبا هذه رواية الداني عنه. وروى ابن جني عنه نصب "الليل" ورفع "النهار". قال ابن عطية: "ونقل ابن جني أثبت" وفيه نظر من حيث إن الداني أعنى من أبي الفتح بهذه الصناعة وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد رواية الداني أيضا أنها موافقة لقراءة العامة من حيث المعنى، وذلك أنه جعل الليل فاعلا لفظا ومعنى، والنهار مفعولا لفظا ومعنى، وفي قراءة الجماعة: الليل فاعل معنى، والنهار مفعول لفظا ومعنى، وذلك أن المفعولين في هذا الباب متى صلح أن يكون كل منهما فاعلا ومفعولا في المعنى وجب تقديم الفاعل معنى لئلا يلبس نحو: "أعطيت زيدا عمرا" فإن لم يلبس نحو: "أعطيت زيدا درهما، وكسوت عمرا جبة" جاز، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصريحين [ ص: 342 ] نحو: ضرب موسى عيسى، وضرب زيد عمرا، وهذه الآية الكريمة من باب "أعطيت زيدا عمرا" لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشيا مغشيا فوجب جعل "الليل" في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي و "النهار" هو المفعول من غير عكس، وقراءة الداني موافقة لهذه لأنها المصرحة بفاعلية الليل، وقراءة ابن جني مخالفة لها، وموافقة الجماعة أولى. قلت: وقد روى الزمخشري قراءة حميد كما رواها أبو الفتح فإنه قال: "يغشي" بالتشديد: أي يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل، يحتملهما جميعا، والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس "يغشى" بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار. انتهى. وفيما قاله أبو القاسم نظر لما ذكرت لك من أن الآية الكريمة مما يجب فيها تقديم الفاعل المعنوي، وكأن أبا القاسم تبع أبا الفتح في ذلك فلم يلتفت إلى هذه القاعدة المذكورة سهوا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يطلبه" حال من الليل لأنه هو المحدث عنه أي: يغشى النهار طالبا له، ويجوز أن يكون من النهار أي مطلوبا وفي الجملة ذكر كل منهما. و "حثيثا" يحتمل أن يكون نعت مصدر محذوف أي: طلبا حثيثا، وأن يكون حالا من فاعل "يطلبه" أي حاثا، أو من مفعوله أي: محثوثا. والحث: الإعجال والسرعة والحمل على فعل شيء كالحض عليه، فالحث والحض أخوان.

                                                                                                                                                                                                                                      يقال: حثثت فلانا فاحتث فهو حثيث ومحثوث. قال:


                                                                                                                                                                                                                                      2214 - تدلى حثيثا كأن الصوا     ر يتبعه أزرقي لحم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 343 ] فهذا يحتمل أن يكون نعت مصدر محذوف، وأن يكون حالا أي: تولى توليا حثيثا أو تولى في هذه الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: والشمس قرأ ابن عامر هنا وفي النحل برفع "الشمس" وما عطف عليها ورفع "مسخرات"، وافقه حفص عن عاصم في النحل خاصة على رفع والنجوم مسخرات ، والباقون بالنصب في الموضعين. وقرأ أبان بن تغلب هنا برفع "النجوم" وما بعدها فقط، كحفص في النحل.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة ابن عامر فعلى الابتداء والخبر، جعلها جملة مستقلة بالإخبار بأنها مسخرات لنا من الله تعالى لمنافعنا. وأما قراءة الجماعة فالنصب في هذه السورة على عطفها على "السماوات" أي: وخلق الشمس، وتكون "مسخرات" على هذا حالا من هذه المفاعيل. ويجوز أن تكون هذه منصوبة بـ "جعل" مقدرا، فتكون هذه المنصوبات مفعولا أول، ومسخرات مفعولا ثانيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة حفص في النحل فإنه إنما رفع هناك لأن الناصب هناك "سخر" وهو قوله تعالى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر ، فلو نصب النجوم ومسخرات لصار اللفظ: سخرها مسخرات، فيلزم التأكيد فلذلك قطعهما على الأول ورفعهما جملة مستقلة. والجمهور يخرجونها على الحال المؤكدة وهو مستفيض في كلامهم، أو على إضمار فعل قبل "والنجوم" أي: وجعل النجوم مسخرات، أو يكون "مسخرات" جمع مسخر المراد به المصدر، وجمع باعتبار أنواعه كأنه قيل: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم تسخيرات أي أنواعا من التسخير. [ ص: 344 ] وقوله: بأمره متعلق بمسخرات أي بتيسيره وإرادته لها في ذلك. ويجوز أن تكون الباء للحال أي: مصاحبة لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها. وقوله: له الخلق والأمر يجوز أن يكون مصدرا على بابه، وأن يكون واقعا موقع المفعول به.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية