الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (11) قوله تعالى: " إذ يغشاكم " : في "إذ" وجوه أحدها: أنه بدل من "إذ" في قوله: وإذ يعدكم . قال الزمخشري: إذ يغشاكم بدل ثان من "إذ يعدكم". قوله: "ثان" لأنه أبدل منه "إذ" في قوله "إذ تستغيثون" ووافقه على هذا ابن عطية وأبو البقاء. الثاني: أنه منصوب بالنصر. الثالث: بـ " من عند الله " من معنى الفعل. الرابع: بـ " ما جعله الله " . الخامس: بإضمار "اذكر". ذكر ذلك الزمخشري. وقد سبقه إلى الرابع الحوفي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ضعف الشيخ الوجه الثاني بثلاثة أوجه أحدها: أن فيه إعمال المصدر المقرون بأل قال: وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يعمل. الثاني من الأوجه المضعفة أنه فيه فصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله: إلا من عند الله ، ولو قلت: "ضرب زيد شديد عمرا" لم يجز. الثالث: أنه عمل ما قبل "إلا" فيما بعدها وليس أحد الثلاثة الجائز ذلك فيها، [ ص: 574 ] لأنه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له. وقد جوز الكسائي والأخفش إعمال ما قبل "إلا" فيما بعدها مطلقا، وليس في هذه الأوجه أحسن من أنه أخبر عن الموصول قبل تمام صلته.

                                                                                                                                                                                                                                      وضعف الثالث بأنه يلزم منه أن يكون استقرار النصر مقيدا بهذا الظرف، والنصر من عند الله لا يتقيد بوقت دون وقت. وهذا لا يضعف به لأن المراد بهذا النصر نصر خاص، وهذا النصر الخاص كان مقيدا بذلك الظرف. وضعف الرابع بطول الفصل ويكون معمولا لما قبل "إلا".

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أنه منصوب بقوله: "ولتطمئن به" قاله الطبري. السابع: أنه منصوب بما دل عليه "عزيز حكيم" قاله أبو البقاء. ونحا إليه ابن عطية قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "يغشاكم النعاس". نافع: "يغشيكم" بضم الياء وكسر الشين خفيفة. "النعاس" نصبا. والباقون "يغشيكم" كالذي قبله، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى من غشي يغشى، و "النعاس" فاعل. وفي الثانية من "أغشى"، وفاعله ضمير الباري تعالى، وكذا في الثالثة من "غشى" بالتشديد. و "النعاس" فيهما مفعول به، وأغشى وغشى لغتان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أمنة" في نصبها ثلاثة [أوجه] أحدها: أنه مصدر لفعل مقدر أي: فأمنتم أمنة. الثاني: أنها منصوبة على أنها واقعة موقع الحال: إما من [ ص: 575 ] الفاعل، فإن كان الفاعل "النعاس" فنسبة الأمنة إليه مجاز، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقة، وإما من المفعول على المبالغة أي: جعلهم نفس الأمنة، أو على حذف مضاف أي: ذوي أمنة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه مفعول من أجله وذلك: إما أن يكون على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرها واضح، وذلك أن التغشية أو الإغشاء من الله تعالى، والأمنة منه أيضا، فقد اتحد الفاعل فصح النصب على المفعول له. وأما على القراءة الأولى ففاعل "يغشى" النعاس، وفاعل "الأمنة" الباري تعالى. ومع اختلاف الفاعل يمتنع النصب على المفعول له على المشهور وفيه خلاف، اللهم إلا أن يتجوز بتجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: "وأمنة" مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا؟ قلت: بلى ولكن لما كان معنى "يغشاكم النعاس" تنعسون انتصب "أمنة" على معنى: أن النعاس والأمنة لهم، والمعنى إذ تنعسون أمنا. ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم أي: يغشاكم النعاس لأمنة، على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أتاكم في وقت كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم، وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل. قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال: [ ص: 576 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2387 - يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: منه في محل نصب صفة لـ "أمنة"، والضمير في " منه " يجوز أن يعود على الباري تعالى، وأن يعود على النعاس بالمجاز المذكور آنفا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر "أمنة" بسكون الميم. ونظير أمن أمنة بالتحريك حيي حياة، ونظير أمن أمنة بالسكون رحم رحمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ماء ليطهركم العامة على "ماء" بالمد. و "ليطهركم" متعلق بـ "ينزل". وقرأ الشعبي "ما ليطهركم" بألف مقصورة، وفيها تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أن "ما" بمعنى الذي، و "ليطهركم" صلتها، وقال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم، فقدر الجار خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة صلة لـ "ما". وقد رد الشيخ هذين التخريجين بأن لام "كي" لا تقع صلة. والثاني: أن "ما" هو ماء بالمد، ولكن العرب قد حذفت همزته فقالوا: "شربت ما" بميم منونة، حكاه ابن مقسم، وهذا لا نظير له إذ لا يجوز أن ينتهك اسم معرب بالحذف حتى يبقى على حرف واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا عرف هذا فيجوز أن يكون قصرها، وإنما لم ينونه إجراء للوصل مجرى الوقف. ثم هذه الألف يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزة محذوفة وهذه الألف بدل من الواو التي في "موه" في الأصل، ويجوز أن تكون المبدلة من التنوين وأجرى الوصل مجرى الوقف. والأول أولى لأنهم يراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرف واحد نحو "مر" اسم فاعل من أرى يري. [ ص: 577 ] قوله: "ويذهب" نسق على "ليطهركم". وقرأ عيسى بن عمر "ويذهب" بسكون الباء، وهو تخفيف سماه الشيخ جزما. والعامة على "رجز" بكسر الراء والزاي. وقرأ ابن محيصن بضم الراء، وابن أبي عبلة بالسين. وقد تقدم الكلام على كل واحد منها. ومعنى "رجز الشيطان" هنا ما ينشأ عن وسوسته.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية