الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (5) قوله تعالى: كما أخرجك : فيه عشرون وجها: أحدها: أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره: الأنفال ثابتة لله ثبوتا كما أخرجك أي: ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالحق، يعني أنه لا مرية في ذلك. الثاني: أن تقديره: وأصلحوا ذات بينكم إصلاحا كما أخرجك. وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد. الثالث: تقديره: وأطيعوا الله ورسوله طاعة محققة ثابتة كما أخرجك أي: كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة. الرابع: تقديره: يتوكلون توكلا حقيقيا كما أخرجك ربك. الخامس: تقديره: هم: المؤمنون حقا كما أخرجك فهو صفة لـ "حقا".

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: تقديره: استقر لهم درجات وكذا استقرارا ثابتا كاستقرار إخراجك. السابع: أنه متعلق بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلة كما أخرجك ربك. الثامن: تقديره: لكارهون كراهية ثابتة كما أخرجك ربك أي: إن هذين الشيئين: الجدال والكراهية ثابتان لا محالة، كما أن إخراجك ثابت [ ص: 560 ] لا محالة. التاسع: أن الكاف بمعنى إذ، و "ما" مزيدة. التقدير: اذكر إذ أخرجك. وهذا فاسد جدا إذ لم يثبت في موضع أن الكاف تكون بمعنى إذ، وأيضا فإن "ما" لا تزاد إلا في مواضع ليس هذا منها.

                                                                                                                                                                                                                                      العاشر: أن الكاف بمعنى واو القسم و "ما" بمعنى الذي، واقعة على ذي العلم مقسما به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله: والسماء وما بناها ، وما خلق الذكر والأنثى والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله "يجادلونك" جواب القسم. وهذا قول أبي عبيدة. وقد رد الناس عليه قاطبة. وقالوا: كان ضعيفا في النحو، ومتى ثبت كون الكاف حرف قسم بمعنى الواو؟ وأيضا فإن "يجادلونك" لا يصح كونه جوابا; لأنه على مذهب البصريين متى كان مضارعا مثبتا وجب فيه شيئان: اللام وإحدى النونين، نحو ليسجنن وليكونا ، وعند الكوفيين: إما اللام وإما إحدى النونين، و "يجادلونك" عار عنهما.

                                                                                                                                                                                                                                      الحادي عشر: أن الكاف بمعنى على، و "ما" بمعنى الذي والتقدير: امض على الذي أخرجك. وهو ضعيف لأنه لم يثبت كون الكاف بمعنى "على" البتة إلا في موضع يحتمل النزاع كقوله: واذكروه كما هداكم أي على هدايته إياكم. الثاني عشر: أن الكاف في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله، كأنه ابتداء وخبر. قال ابن عطية: "وهذا المعنى وضعه هذا المفسر، وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر". [ ص: 561 ] الثالث عشر: أنها في موضع رفع أيضا والتقدير: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، هذا وعد حق كما أخرجك. وهذا فيه حذف مبتدأ وخبر، ولو صرح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع عشر: أنها في موضع رفع أيضا. والتقدير: وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك، فالكاف في الحقيقة نعت لخبر مبتدأ محذوف. وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله: "وأصلحوا" وبين قوله "كما أخرجك" .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس عشر: أنها في محل رفع أيضا على خبر ابتداء مضمر والمعنى: أنه شبه كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ عيره بكراهيتهم لنزع الغنائم من أيديهم وجعلها لله ورسوله يحكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجه وحسنه، فقال: "يرتفع محل الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب". وهذا الذي حسنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدم من الألفاظ فإن الفراء قال: "هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال".

                                                                                                                                                                                                                                      السادس عشر: أنها صفة لخبر مبتدأ أيضا وقد حذف ذلك المبتدأ وخبره. والتقدير: قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقا. السابع عشر: أن التشبيه وقع بين إخراجين أي: إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت [ ص: 562 ] كاره لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإخراج النصر والظفر كإخراجه إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره، يكون عقيب ذلك الخروج الظفر والنصر والخير كما كانت عقيب ذلك الخروج الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن عشر: أن تتعلق الكاف بقوله "فاضربوا" . وبسط هذا على ما قاله صاحب هذا الوجه: الكاف للتشبيه على سبيل المجاز، كقول القائل لعبده: "كما رجعتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وأزحت عللك فخذهم الآن وعاقبهم كما أحسنت إليك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا واشكرني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنة منه، وأنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان، كأنه يقول: قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل". وهذا الوجه بعد طوله لا طائل تحته لبعده من المعنى وكثرة الفواصل.

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع عشر: أن التقدير: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق أي: بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيبا للقتال وخوفا من الموت; إذ كان أمر عليه السلام بخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدك بملائكته، ودل على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله: إذ تستغيثون ربكم الآيات. وهذا الوجه استحسنه الشيخ، وزعم أنه لم يسبق به، ثم قال: ويظهر أن الكاف [ ص: 563 ] ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نص النحويون على أنها للتعليل، وخرجوا عليه قوله تعالى: واذكروه كما هداكم ، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      2382 - لا تشتم الناس كما لا تشتم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشائع: "كما تطيع الله يدخلك الجنة"، أي: لأجل طاعتك الله يدخلك، فكذا الآية، والمعنى: لأن خرجت لإعزاز دين الله وقتل أعدائه نصرك وأمدك بالملائكة.

                                                                                                                                                                                                                                      العشرون: تقديره: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجك في الطاعة خير لكم، كما كان إخراجك خيرا لهم. وهذه الأقوال مع كثرتها غالبها ضعيف، وقد بينت ذلك. قوله: بالحق فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل أي بسبب الحق أي: إنه إخراج بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول "أخرجك" أي: ملتبسا بالحق.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإن فريقا الواو للحال، والجملة في محل نصب، ولذلك كسرت "إن". ومفعول "كارهون" محذوف أي: لكارهون الخروج، وسبب الكراهة: إما نفرة الطبع مما يتوقع من القتال، وإما لعدم الاستعداد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية