الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (35) قوله تعالى: إلا مكاء وتصدية : أي: ما كان شيء مما يعدونه صلاة وعبادة إلا هذين الفعلين وهما المكاء والتصدية، أي: إن كان لهم صلاة فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2410 - وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا



                                                                                                                                                                                                                                      فأقام القيود والسياط مقام العطاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والمكاء: مصدر مكا يمكو، أي صفر بين أصابعه أو بين كفيه، قال الأصمعي: قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصته؟ فشبك بين أصابعه وجعلها على فيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة:


                                                                                                                                                                                                                                      2411 - وحليل غانية تركت مجدلا     تمكو فريصته كشدق الأعلم



                                                                                                                                                                                                                                      يقال: مكت الفريصة، أي: صوتت بالدم. ومكت است الدابة، أي: نفخت بالريح. وقال مجاهد: المكاء: صفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2412 - إذا غرد المكاء في غير روضة     فويل لأهل الشاء والحمرات



                                                                                                                                                                                                                                      المكاء فعال بناء مبالغة. قال أبو عبيدة: يقال مكا يمكو مكوا ومكاء: صفر، والمكاء بالضم كالبكاء والصراخ. قيل: ولم يشذ من أسماء الأصوات بالكسر إلا الغناء والنداء. [ ص: 601 ] والتصدية فيها قولان أحدهما: أنها من الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة يقال منه: صدي يصدى تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو القرآن صفقوا بأيديهم وصفروا بأفواههم ليشغلوا عنه من يسمعه ويخلطوا عليه قراءته. وهذا مناسب لقوله: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . وقيل: هي مأخوذة من التصددة وهي الضجيج والصياح والتصفيق، فأبدلت إحدى الدالين ياء تخفيفا، ويدل عليه قوله تعالى: إذا قومك منه يصدون في قراءة من كسر الصاد أي: يضجون ويلغطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد رده عليه أبو جعفر الرستمي، وقال: "إنما هو من الصدي فكيف يجعل من المضعف"؟ وقد رد أبو علي على أبي جعفر رده وقال: "قد ثبت أن يصدون من نحو الصوت فأخذه منه، وتصدية تفعلة"، ثم ذكر كلاما كثيرا. والثاني: أنها من الصد وهو المنع والأصل: تصددة بدالين أيضا، فأبدلت ثانيتهما ياء. ويؤيد هذا قراءة من قرأ "يصدون" بالضم أي: يمنعون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة "صلاتهم" رفعا، "مكاء" نصبا، وأبان بن تغلب والأعمش [ ص: 602 ] وعاصم بخلاف عنهما "وما كان صلاتهم" نصبا، "مكاء" رفعا. وخطأ الفارسي هذه القراءة وقال: لا يجوز أن يخبر عن النكرة بالمعرفة إلا في ضرورة كقول حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      2413 - كأن سبيئة من بيت رأس     يكون مزاجها عسل وماء



                                                                                                                                                                                                                                      وخرجها أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسما جنس، يعني أنهما مصدران قال: واسم الجنس تعريفه وتنكيره متقاربان فلم يقال ثانيهما جعل اسما والآخر خبرا؟ وهذا يقرب من المعرف بأل الجنسية حيث وصف بالجملة، كما يوصف به النكرة كقوله تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2414 - ولقد مررت على اللئيم يسبني     فمضيت ثمت قلت لا يعنيني



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: وقد قرأ أبو عمرو "إلا مكا" بالقصر والتنوين، وهذا كما قالوا: بكاء وبكى بالمد والقصر. وقال الشاعر فجمع بين اللغتين:


                                                                                                                                                                                                                                      2415 - بكت عيني وحق لها بكاها     وما يغني البكاء ولا العويل



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية