الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (42) قوله تعالى: إذ أنتم : في هذا الظرف أربعة أوجه أحدها: أنه منصوب بـ "اذكروا" مقدرا وهو قول الزجاج. الثاني: أنه بدل من "يوم الفرقان" أيضا. الثالث: أنه منصوب بـ "قدير"، وهذا ليس بواضح، إذ لا يتقيد اتصافه بالقدرة بظرف من الظروف. الرابع: أنه منصوب بالفرقان أي: فرق بين الحق والباطل إذ أنتم بالعدوة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بالعدوة متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ، والباء بمعنى "في" كقولك: "زيد بمكة". وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعدوة بكسر العين فيهما. والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شط الوادي وشفيره وضفته، سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها أي منعته. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2421 - عدتني عن زيارتها العوادي وحالت دونها حرب زبون



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وزيد بن علي وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح، وهي كلها لغات بمعنى واحد. هذا هو قول جمهور اللغويين. على أن أبا عمرو بن العلاء أنكر [ ص: 610 ] الضم ووافقه الأخفش فقال: "لم يسمع من العرب إلا الكسر". ونقل أبو عبيد اللغتين إلا أنه قال: "الضم أكثرهما". وقال اليزيدي: "الكسر لغة الحجاز" وأنشد قول أوس بن حجر:


                                                                                                                                                                                                                                      2422 - وفارس لم يحل القوم عدوته     ولوا سراعا وما هموا بإقبال



                                                                                                                                                                                                                                      بالكسر والضم، وهذا هو الذي ينبغي أن يقال فلا وجه لإنكار الضم ولا الكسر لتواتر كل منهما. ويحمل قول أبي عمرو على أنه لم يبلغه. ويحتمل أن يقال في قراءة من قرأ بفتح العين أن يكون مصدرا سمي به المكان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا "بالعدية" بقلب الواو ياء لانكسار ما تقدمها، ولا يعتبر الفاصل لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا: "هو ابن عمي دنيا"، بكسر الدال وهو من الدنو، وكذلك قنية وصبية، وأصله السلامة كالذروة والصفوة والربوة. وقوله: "الدنيا" قد تقدم الكلام على هذه اللفظة مسبقا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: القصوى تأنيث الأقصى. والأقصى: الأبعد. والقصو: البعد. وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فعلى من ذوات الواو: إن كانت اسما أبدلت لامها ياء، ثم يمثلون بنحو الدنيا والعليا والقصيا، وهذه صفات لأنها من باب أفعل التفضيل وكأن العذر لهم أن هذه وإن كانت في الأصل صفات إلا أنها جرت مجرى الجوامد. قالوا: وإن كانت فعلى صفة أقرت لامها على حالها نحو: الحلوى تأنيث الأحلى، ونصوا على أن القصوى شاذة وإن كانت [ ص: 611 ] لغة الحجاز، وأن القصيا قياس، وهي لغة تميم. وممن نص على شذوذ القصوى يعقوب بن السكيت. وقال الزمخشري: وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل، وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال "استصوب" مع مجيء "استصاب" وأغيلت مع أغالت. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرأ زيد بن علي "بالعدوة والقصيا" فجاء بها على لغة تميم، وهي القياس عند هؤلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والعبارة الثانية وهي المغلوبة القليلة العكس، أي: إن كانت صفة أبدلت نحو: العليا والدنيا والقصيا، وإن كانت اسما أقرت نحو: حزوى كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2423 - أدارا بحزوى هجت للعين عبرة     فماء الهوى يرفض أو يترقرق



                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فالحلوى شاذة لإقرار لامها مع كونها صفة، وكذا القصوى أيضا عند هؤلاء لأنها صفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ترتب على هاتين العبارتين أن "قصوى" على خلاف القياس فيهما، وأن "قصيا" هي القياس لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء، وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضا ياء، وإنما يظهر الفرق في الحلوى وحزوى: فالحلوى عند الأولين تصحيحها قياس لكونها صفة وشاذة عند الآخرين لأن الصفة عندهم تقلب واوها ياء، والحزوى عكسها: فإن الأولين يعلون في الأسماء دون الصفات، والآخرون عكسهم. وهذا موضع [ ص: 612 ] حسن يختلط على كثير من الناس فلذلك نقحته. ونعني بالشذوذ شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال، ألا ترى إلى استعمال المتواتر بالقصوى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: والركب أسفل منكم الأحسن في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على "هم" أن تكون عاطفة ما بعدها على "أنتم" لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم. ويجوز أن تكونا واوي حال. و "أسفل" منصوب على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف أي: والركب مكانا أسفل من مكانكم. وقرأ زيد بن علي "أسفل" بالرفع وذلك على سبيل الاتساع، جعل الظرف نفس الركب مبالغة واتساعا. وقال مكي: وأجاز الفراء والأخفش والكسائي "أسفل" بالرفع على تقدير محذوف أي: موضع الركب أسفل. والتخريج الأول أبلغ في المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      والركب اسم جمع لراكب لا جمع تكسير له خلافا للأخفش لقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2424 - بنيته من عصبة من ماليا     أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا



                                                                                                                                                                                                                                      فصغره على لفظه، ولو كان جمعا لما صغر على لفظه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولكن ليقضي "ليقضي" متعلق بمحذوف، أي: ولكن تلاقيتم ليقضي. وقدر الزمخشري ذلك المحذوف فقال: "أي: ليقضي الله أمرا كان واجبا أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك". [ ص: 613 ] و "كان" يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، وأن تكون بمعنى صار، فتدل على التحول أي: صار مفعولا بعد أن لم يكن كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ليهلك فيه أوجه، أحدها: أنه بدل من قوله "ليقضي" بإعادة العامل فيتعلق بما تعلق به الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه متعلق بقوله "مفعولا" ، أي: فعل هذا الأمر لكيت وكيت. الثالث: أنه متعلق بما تعلق به "ليقضي" على سبيل العطف عليه بحرف عطف محذوف تقديره: وليهلك، فحذف العاطف وهو قليل جدا. وقد قدمت التنبيه عليه. الرابع: أنه متعلق بـ "يقضي" ذكره أبو البقاء. وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم "ليهلك" بفتح اللام، وقياس ماضي هذا "هلك" بالكسر. والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى: إن امرؤ هلك ، حتى إذا هلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من حي قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير بالإظهار، والباقون بالإدغام. والإظهار والإدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كل ما آخره ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حيي وعيي. ومن الإدغام قول المتلمس: [ ص: 614 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2425 - فهذا أوان العرض حي ذبابه      . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2426 - عيوا بأمرهم كما     عيت ببيضتها الحمامه



                                                                                                                                                                                                                                      فأدغم "عيوا"، وينشد: عيت وعييت بالإظهار والإدغام. فمن أظهر فلأنه الأصل، ولأن الإدغام يؤدي إلى تضعيف حرف العلة وهو ثقيل في ذاته، ولأن الياء الأولى يتعين فيها الإظهار في بعض الصور، وذلك في مضارع هذا الفعل لانقلاب الثانية ألفا في يحيا ويعيا، فحمل الماضي عليه طردا للباب، ولأن الحركة في الثاني عارضة لزوالها في نحو: حييت وبابه، ولأن الحركتين مختلفتان، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين قالوا: ولذلك قالوا: لححت عينه وضبب المكان وألل السقاء ومششت الدابة. قال سيبويه: "أخبرنا بهذه اللغة يونس"، يعني بلغة الإظهار. قال: "وسمعت بعض العرب يقول: أحيياء وأحيية فيظهر". وإذا لم يدغم مع لزوم الحركة فمع عروضها أولى. ومن أدغم فلاستثقال ظهر الكسرة في حرف يجانسه; ولأن حركة الثانية لازمة لأنها حركة بناء، ولا يضر زوالها في نحو حييت، كما لا يضر ذلك فيما يجب إدغامه من الصحيح نحو: حللت وظللت; وهذا كله فيما كانت حركته حركة بناء، ولذلك قيد به بالماضي، أما إذا كانت حركة إعراب فالإظهار فقط له: يحيي ولن يعيي. [ ص: 615 ] قوله: عن بينة : متعلق بـ "يهلك" و "يحيا". والهلاك والحياة عبارة عن الإيمان والكفر. والمعنى: ليصدر كفر من كفر عن وضوح وبيان لا عن مخالجة شبهة، وليصدر إسلام من أسلم عن وضوح لا عن مخالجة شبهة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية