الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (151) قوله تعالى: أتل ما حرم : في "ما" هذه ثلاثة أوجه أظهرها: أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي: الذي حرمه، والموصول في محل نصب مفعولا به. والثاني: أن تكون مصدرية أي: أتل تحريم ربكم، ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به أي: أتل محرم ربكم الذي حرمه هو. والثالث: أنها استفهامية في محل نصب بحرم بعدها، وهي معلقة لأتل والتقدير: أتل أي شيء حرم ربكم، وهذا ضعيف لأنه لا تعلق إلا أفعال القلوب وما حمل عليها. وأما "عليكم" ففيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بحرم، وهذا اختيار البصريين. والثاني: أنه متعلق بأتل وهو اختيار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإعمال، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمال الثاني، واختيار الكوفيين إعمال الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ألا تشركوا فيه أوجه أحدها: أن "أن" تفسيرية لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه و "لا" هي ناهية و "تشركوا" مجزوم بها، وهذا وجه ظاهر، وهو اختيار الفراء قال: "ويجوز أن يكون مجزوما بـ "لا" على [ ص: 214 ] النهي كقولك: أمرتك أن لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم. ثم قال: والجزم في هذه الآية أحب إلي كقوله تعالى: أوفوا المكيال والميزان قلت: يعني فعطف هذه الجملة الأمرية يقوي أن ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام، وهو اختيار الزمخشري أيضا فإنه قال: وأن في "أن لا تشركوا" مفسرة و "لا" للنهي، ثم قال بعد كلام: فإن قلت: إذا جعلت "أن" مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم ربكم وجب أن يكون ما بعده منهيا عنه محرما كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعا فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه علم أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث العهد".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: " وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم، وكون التحريم راجعا إلى أضداد الأوامر بعيد جدا وإلغاز في التعامي ولا ضرورة تدعو إلى ذلك". قلت: ما استبعده ليس ببعيد وأين الإلغاز والتعمي من هذا الكلام حتى يرميه به. ثم قال الشيخ: وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز "أن" التفسيرية، بل هي معطوفة على قوله: تعالوا أتل ما حرم ، أمرهم أولا بأمر يترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت "أن" التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون "أن" مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وما أمركم به فحذف [ ص: 215 ] وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه، لأن معنى ما حرم ربكم: ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى: تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون "أن" تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف، ألا ترى أنه يجوز أن تقول: "أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما" إذ يجوز أن يعطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال:


                                                                                                                                                                                                                                      2118 - . . . . . . . . . . . . . . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا لا نعلم فيه خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن تكون "أن" ناصبة للفعل بعدها، وهي وما في حيزها في محل نصب بدلا من "ما حرم". الثالث: أنها الناصبة أيضا وهي وما في حيزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير: ما حرمه، وهو في المعنى كالذي قبله. و "لا" على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى: ألا تسجد و لئلا يعلم . قال الشيخ: وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلا في المحرم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادعاء زيادة "لا" فيه لظهور أن "لا" فيه للنهي. ولما ذكر مكي كونها بدلا من "ما حرم" لم ينبه على زيادة "لا" ولا بد منه. وقد منع الزمخشري أن تكون بدلا من "ما حرم" فقال: فإن قلت: هلا قلت [ ص: 216 ] هي التي تنصب الفعل وجعلت "أن لا تشركوا" بدلا من "ما حرم" . قلت: وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله "بالوالدين إحسانا" ; لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا، وبعهد الله أوفوا. فإن قلت: فما تصنع بقوله: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على "أن لا تشركوا" إذا جعلت "أن" هي الناصبة حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفي الإشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما؟ قلت: أجعل قوله: "وأن هذا صراطي مستقيما" علة للاتباع بتقدير اللام كقوله: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي أنه مستقيم.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو: "فإن قلت: هلا قلت هي الناصبة" إلى: وبعهد الله أوفوا فقال: "لا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على ما دخل عليه "لا" لأنا بينا جواز عطف "وبالوالدين إحسانا" على "تعالوا" وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله "وبالوالدين إحسانا" معطوفا على "أن لا تشركوا".

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن تكون "أن" الناصبة وما في حيزها منصوبة على الإغراء بـ "عليكم"، ويكون الكلام الأول قد تم عند قوله "ربكم" ، ثم ابتدأ فقال: عليكم أن لا تشركوا، أي: الزموا نفي الإشراك وعدمه، وهذا وإن كان ذكره [ ص: 217 ] جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره; ولأنه لا يتبادر إلى الذهن.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنها وما في حيزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير: أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا، وهذا منقول عن أبي إسحاق، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمر معطوف بالواو ومناه معطوفة بالواو أيضا فلا يناسب أن يكون تبيينا لما حرم، أما الأمر فمن حيث المعنى، وأما المناهي فمن حيث العطف.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمار فعل تقديره: أوصيكم أن لا تشركوا; لأن قوله "وبالوالدين إحسانا" محمول على أوصيكم بالوالدين إحسانا، وهو مذهب أبي إسحاق أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: أن تكون "أن" وما في حيزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: المحرم أن لا تشركوا، أو المتلو أن لا تشركوا، إلا أن التقدير بنحو المتلو أحسن; لأنه لا يحوج إلى زيادة "لا"، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن: أنها في محل رفع أيضا على الابتداء، والخبر الجار قبله والتقدير: عليكم عدم الإشراك، ويكون الوقف على قوله "ربكم" كما تقدم في وجه الإغراء، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال:" ويجوز أن يكون في موضع رفع بـ "على" كما تقول: عليكم الصيام والحج".

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع: أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجار قبلها، وهو ظاهر قول [ ص: 218 ] ابن الأنباري المتقدم، والتقدير: استقر عليكم عدم الإشراك. وقد تحصلت في محل "أن لا تشركوا" على ثلاثة أوجه، الرفع والنصب والجر، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدم تحريرها.

                                                                                                                                                                                                                                      و "شيئا" فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول به. والثاني: أنه مصدر، أي إشراكا أي: شيئا من الإشراك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله وبالوالدين إحسانا تقدم تحريره في البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من إملاق "من" سببية متعلقة بالفعل المنهي عنه أي: لا تقتلوا أولادكم لأجل الإملاق. والإملاق: الفقر في قول ابن عباس. وقيل: الجوع بلغة لخم، نقله مؤرج. وقيل: الإسراف، أملق أي: أسرف في نفقته، قاله محمد بن نعيم الترمذي. وقيل الإنفاق، أملق ماله أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد. والإملاق: الإفساد أيضا قاله شمر، قال: "وأملق يكون قاصرا ومتعديا، أملق الرجل: إذا افتقر فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر أي: أفسده" وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر:


                                                                                                                                                                                                                                      2119 - ولما رأيت العدم قيد نائلي     وأملق ما عندي خطوب تنبل



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تذهب بالمال. تنبلت بما عندي: أي ذهبت به. [ ص: 219 ] وفي هذه الآية الكريمة نحن نرزقكم وإياهم ، فقدم المخاطبين، وفي الإسراء قدم ضمير الأولاد عليهم فقال: نحن نرزقهم وإياكم فقيل: للتفنن في البلاغة. وأحسن منه أن يقال: الظاهر من قوله "من إملاق" حصول الإملاق للوالد لا توقعه وخشيته فبدئ أولا بالعدة برزق الآباء بشارة لهم بزوال ما هم فيه من الإملاق، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حصول الفقر ولذلك قال: خشية إملاق، وإنما يخشى الأمور المتوقعة فبدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا موسرين، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ما ظهر منها وما بطن في محل نصب بدلا من الفواحش بدل اشتمال أي: لا تقربوا ظاهرها وباطنها كقولك: ضربت زيدا ما ظهر منه وما بطن، ويجوز أن تكون "من" بدل البعض من الكل. و "منها" متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل "ظهر" . وحذف منها بعد قوله "بطن" لدلالة قوله "منها" في الأول عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا بالحق في محل نصب على الحال من فاعل "تقتلوا" أي: لا تقتلوها إلا متلبسين بالحق، ويجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف أي: إلا قتلا متلبسا بالحق، وهو أن يكون القتل للقصاص أو للردة أو للزنا بشرطه كما جاء مبينا في السنة. وقوله: "ولا تقتلوا" هذا شبيه بما هو من ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه; لأن الفواحش يندرج فيها قتل النفس، فجرد منها هذا استفظاعا له وتهويلا، ولأنه قد استثنى منه في قوله "إلا بالحق" ولو لم يذكر [ ص: 220 ] هذا الخاص لم يصح الاستثناء من عموم الفواحش، لو قيل في غير القرآن: "لا تقربوا الفواحش إلا بالحق" لم يكن شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ذلكم وصاكم في محله قولان أحدهما: أنه مبتدأ، والخبر الجملة الفعلية بعده. والثاني: أنه في محل نصب بفعل مقدر من معنى الفعل المتأخر عنه، وتكون المسألة من باب الاشتغال، والتقدير: ألزمكم أو كلفكم ذلك، ويكون "وصاكم به" مفسرا لهذا العامل المقدر كقوله تعالى: والظالمين أعد لهم عذابا أليما وناسب قوله هنا "لعلكم تعقلون" لأن العقل مناط التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية